اختلاف العلماء في حكم بيع دور مكة وتأجيرها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: ﴿سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾ [الحج: ٢٥] قال: ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام، وقال مجاهد: ﴿سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾ أهل مكة وغيرهم فيه سواء في المنازل، وكذا قال أبو صالح وعبد الرحمن بن سابط وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: سواء فيه أهله وغير أهله، وهذه المسألة اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهويه بمسجد الخيف].
أي: اختلفوا: هل تؤجر وتباع دور مكة أو لا؟ قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه المسألة اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهويه بمسجد الخيف، وأحمد بن حنبل حاضر أيضاً، فذهب الشافعي رحمه الله إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر].
لأنه يرى أنها فتحت صلحاً، فتباع وتؤجر وتملك، لكن الصواب أنها فتحت عنوة، فمكة لم تفتح صلحاً بل فتحت بقوة، ودخل النبي بالقوة، لكن قال بعضهم: إنه ملكها أهلها بعد ذلك، ولما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أتنزل غداً في دارك بمكة؟ فقال: (وهل ترك لنا عقيل من رباع) يعني: من دور، وعقيل هو عقيل بن أبي طالب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واحتج بحديث الزهري عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال: قلت: (يا رسول الله! أتنزل غداً في دارك بمكة؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع؟ ثم قال: لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر) وهذا الحديث مخرج في الصحيحين].
احتج الشافعي بقول أسامة للنبي: (أتنزل غداً في دارك بمكة؟) قوله: في دارك، أضاف الدار إليه، فدل هذا على أنها تملك، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: ليس لنا دار، أو قال: لا تملك الدور، لكن قال: إنه ورث عقيل عن أبيه أبو طالب فقد مات على الكفر، وعقيل كذلك مات على دين أبيه فورث أباه، والمسلم لا يرث الكافر، إنما الكافر يرث الكافر، والمسلم يرث المسلم، فهو ورث أباه؛ لأنه على دينه، فيقول النبي: (وهل ترك لنا عقيل من رباع)؛ لأنه ورث أباه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبما ثبت: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترى من صفوان بن أمية داراً بمكة، فجعلها سجناً بأربعة آلاف درهم، وبه قال طاوس وعمرو بن دينار، وذهب إسحاق بن راهويه إلى أنها لا تورث ولا تؤجر، وهو مذهب طائفة من السلف، ونص عليه مجاهد وعطاء، واحتج إسحاق بن راهويه بما رواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حيوة عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة].
في نسخة: ابن جبير وفي نسخة أخرى حيوة.
الأقرب أنها لا تورث ولا تؤجر؛ لأنها وقف، ومن احتاج سكن بدون أجرة، ومن لا يحتاج ارتفع عنها، مثل المسجد الحرام ﴿سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾ [الحج: ٢٥].
قال: [عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر، وما تدعي رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن].
والسوائب هي الشيء المسيب المتروك، فهي متروكة من احتاج إليها سكن ومن لم يحتج أسكن غيره، تسمى السوائب يعني: المتروكة للغاديين والرائحين فمن جاء سكن؛ لأنها وقف.
وهذا الحديث كما في الزوائد إسناده صحيح على شرط مسلم، وليس لـ علقمة بن نضلة عند ابن ماجة سوى هذا الحديث، لكن الحديث مرسل عن ابن نضلة، وإذا وجد مرسل آخر يعضده صار حجة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرزاق عن ابن مجاهد عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أنه قال: لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها].
كراؤها يعني تأجيرها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً: عن ابن جريج: كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم، وأخبرني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينهى أن تبوب دور مكة].
يعني: لا يجعل لها أبواب؛ لأنها وقف؛ لأنه لو جعل لها أبواب لن يأتي أحد ويسكن فيها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً عن ابن جريج: كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم، وأخبرني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينهى أن تبوب دور مكة؛ لأن ينزل الحاج في عرصاتها، فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو، فأرسل إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك، فقال: أنظرني يا أمير المؤمنين! إني كنت امرأ تاجراً، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري، قال: فذلك إذاً.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا أهل مكة! لا تتخذوا لدوركم أبواباً؛ لينزل البادي حيث يشاء].
البادي: يعني القادم إلى مكة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وأخبرنا معمر عمن سمع عطاء يقول في قوله: ﴿سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾ [الحج: ٢٥] قال: ينزلون حيث شاءوا.
وروى الدارقطني من حديث ابن أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو موقوفاً: (من أكل كراء بيوت مكة أكل ناراً)].
وهذا منقطع، ففيه رجل مبهم، وهو موقوف على عبد الله بن عمرو.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وتوسط الإمام أحمد فيما نقله صالح ابنه فقال: تملك وتورث ولا تؤجر جمعاً بين الأدلة، والله أعلم].
بهذا تكون الأقوال ثلاثة: القول الأول: الشافعي يرى أنها تملك وتورث وتباع وتؤجر.
والقول الثاني: إسحاق بن راهويه وجماعة: لا تملك ولا تباع ولا تؤجر ولا تورث ولا تبوب، متروكة للناس.
القول الثالث: الإمام أحمد التوسط: وهو أنها تملك وتورث وتباع، ولا تؤجر.
فالإمام أحمد جمع بين الأدلة، فالأدلة التي فيها المنع حملها على التأجير، والأدلة التي فيها الجواز حملها على البيع والإرث.
ولا شك أن المسألة فيها إشكال وتحتاج إلى جمع النصوص وكلام أهل العلم فيها.


الصفحة التالية
Icon