أقوال أهل العلم في قوله تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج: ٢٥]، قال بعض المفسرين من أهل العربية: الباء ههنا زائدة كقوله: ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾ [المؤمنون: ٢٠] أي تنبت الدهن، وكذا قوله: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ﴾ [الحج: ٢٥] تقديره إلحاداً].
وليس معنى زائدة: أنه ليس لها معنى، بل مؤكدة، فالقرآن ليس فيه شيء زائد، بل معناه أنها تفيد التأكيد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذا قوله: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ﴾ [الحج: ٢٥] تقديره إلحاداً، وكما قال الأعشى: ضمنت برزق عيالنا أرماحنا بين المراجل والصريح الأجرد].
يعني: اللبن الذي لا رغبة له.
والشاهد (برزق)، الباء زائدة، يعني: ضمنت رزق عيالنا، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ﴾ [الحج: ٢٥].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الآخر: بواد يمان ينبت الشث صدره وأسفله بالمرخ والشبهان].
الشاهد: وأسفله بالمرخ، والمرخ شجر معروف تشتعل النار منه.
فهي من ناحية الإعراب فقط للتأكيد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والأجود أنه ضمن الفعل هاهنا معنى يهم؛ ولهذا عداه بالباء فقال: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ﴾ [الحج: ٢٥] أي: يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار].
يقول: الأولى ألا يقال: الباء زائدة، بل الأولى أن يقال: ضمن الفعل (يريد) بمعنى: يهم، وعلى هذا لا تكون زائدة.
فذكر قولين: القول الأول: أن الباء زائدة مؤكدة، والقول الثاني: أنها ليست زائدة، ولكن الفعل (يريد) ضمن معنى يهم، فمعنى ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ﴾ [الحج: ٢٥] ومن يهم فيه بإلحاد، فإذا ضمن الفعل معنى يهم تعدى بالباء.
والإشكال في القول الأول، وهو أن يريد لا يتعدى بالباء، فالباء زائدة ومؤكدة.
والقول الثاني هو الأولى والأحسن، وهو أن يقال: إن الفعل (يريد) ضمن معنى يهم، والمعنى: (ومن يهم فيه بإلحاد) فمجرد أن يهم الإنسان بالسوء يذقه الله من عذاب أليم.
وهذا من خواص الحرم بخلاف غيره؛ فإنما يعاقب إذا فعل السيئة، لكن الحرم إذا هم فيه بالإلحاد أذاقه الله العذاب الأليم.
وهل هناك فرق بين الهم والعزم في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ [يوسف: ٢٤]، وقوله: (إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)؟ ذكر هذا الباقلاني، وكلامه يحتاج إلى تأمل، ولكن المقصود أن الأصل أن الهم أقل من العزم والتصميم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((بظلم)) أي: عامداً قاصداً أنه ظلم ليس بمتأول، كما قال ابن جريج عن ابن عباس رضي الله عنه: هو التعمد.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (بظلم) بشرك، وقال مجاهد: أن يعبد فيه غير الله تعالى، وكذا قال قتادة وغير واحد، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (بظلم) هو أن تستحل من الحرم ما حرم الله عليك من إساءة أو قتل، فتظلم من لا يظلمك، وتقتل من لا يقتلك؛ فإذا فعل ذلك فقد وجب له العذاب الأليم].
في نسخة: وأن تستحل من الحرام، يعني: تستحل الحرام الذي حرمه الله، أو تستحل من الحرم يعني تستحله في الحرام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال مجاهد: بظلم يعمل فيه عملاً سيئاً، وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي فيه الشر إذا كان عازماً عليه وإن لم يوقعه، كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره حدثنا أحمد بن سنان حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا شعبة عن السدي: أنه سمع مرة يحدث عن عبد الله -يعني: ابن مسعود - رضي الله عنه في قوله: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ﴾ [الحج: ٢٥] قال: لو أن رجلاً أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعدن أبين لأذاقه الله من العذاب الأليم].
يعني: ولو كان بعيداً، ولو كان بعدن أبين، والمعروف أنه مكان بعيد عن الحرم، لكن إذا هم وهو في مكان بعيد أذاقه الله العذاب الأليم.
والمراد بعدن أبين التي في اليمن، فهناك فرق بينها وبين عدن أخرى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال شعبة: هو رفعه لنا، وأنا لا أرفعه لكم، قال يزيد: هو قد رفعه، ورواه أحمد عن يزيد بن هارون به.
قلت: هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري، ووقفه أشبه من رفعه؛ ولهذا صمم شعبة على وقفه من كلام ابن مسعود رضي الله عنه، وكذلك رواه أسباط وسفيان الثوري عن السدي عن مرة عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً، والله أعلم.
وقال الثوري عن السدي عن مرة عن عبد الله قال: ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه، ولو أن رجلاً بعدن أبين هم أن يقتل رجلاً بهذا البيت لأذاقه الله من العذاب الأليم، وكذا قال الضحاك بن مزاحم، وقال سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد: إلحاد فيه لا والله وبلى والله.
وروي عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو مثله.
وقال سعيد بن جبير: شتم الخادم ظلم فما فوقه.
وقال سفيان الثوري: عن عبد الله بن عطاء عن ميمون بن مهران عن ابن عباس في قوله: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ﴾ [الحج: ٢٥] قال: تجارة الأمير فيه، وعن ابن عمر: بيع الطعام بمكة إلحاد.
وقال حبيب بن أبي ثابت: ((وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ)) قال: المحتكر بمكة، وكذا قال غير واحد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري أنبأنا أبو عاصم عن جعفر بن يحيى عن عمه عمارة بن ثوبان حدثني موسى بن باذان عن يعلى بن أمية: أن رسول الله ﷺ قال: (احتكار الطعام بمكة إلحاد).
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثنا ابن لهيعة حدثنا عطاء بن دينار حدثني سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله الله: ((وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ)) قال: نزلت في عبد الله بن أنيس: أن رسول الله ﷺ بعثه مع رجلين: أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب عبد الله بن أنيس، فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام، ثم هرب إلى مكة، فنزلت فيه: ((وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ)) يعني: من لجأ إلى الحرم بإلحاد، يعني: بميل عن الإسلام.
وهذه الآثار وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد، ولكن هو أعم من ذلك، بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها].
فـ أبرهة صاحب الحبشة الذي أتى بالفيل أذاقه الله من العذاب الأليم، وكذلك القرامطة الذين قتلوا الحجاج في القرن الثالث أذاقهم الله عذاباً أليماً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم طيراً أبابيل ﴿تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ [الفيل: ٤ - ٥]، أي: دمرهم وجعلهم عبرة ونكالاً لكل من أراده بسوء؛ ولذلك ثبت في الحديث: أن رسول الله ﷺ قال: (يغزو هذا البيت جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم) الحديث].
في الدنيا قبل الآخرة مع ما أعد الله الله لهم في الآخرة.
والحاصل: أن الإلحاد فسر بالشرك، وفسر بالعدوان على الناس في الدماء والأموال والأعراض، وفسر أيضاً بظلم الناس بالمعاصي.
والعُصاة الذي هم بمكة وانتهكوا حرمة الحرم تقام عليهم الحدود بخلاف من لجأ إلى مكة وجاء من بعيد؛ فإنه لا يقام عليه الحد حتى يخرج من مكة؛ لأن من ارتكب حداً خارج مكة، ثم دخل مكة لاجئاً معظم للحرم، فلا يقام عليه الحد في مكة حتى يخرج خارج الحرم، أما من سرق في مكة فتقطع يده في مكة، ومن زنا يجلد أو يرجم في مكة؛ لأنه هو الذي انتهك حرمة الحرم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن كناسة حدثنا إسحاق بن سعيد عن أبيه قال: أتى عبد الله بن عمرو عبد الله بن الزبير فقال: يا ابن الزبير! إياك والإلحاد في حرم الله؛ فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: (إنه سيلحد فيه رجل من قريش، لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت)، فانظر لا تكن هو].
وهذا السند لا بأس به، ولعله عبد الله بن عمرو بن العاص كما سيأتي.
وعبد الله بن عمرو بن العاص معروف أنه كان شاباً يتعبد ويصوم الليل ويقوم النهار، وأمره النبي ﷺ أن يخفف على نفسه، واتفق مع النبي ﷺ على أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فلما كبرت سنه قال: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً في مسند عبد الله بن عمرو ب