تفسير قوله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات)
قال الله تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: ٢٨ - ٢٩].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ [الحج: ٢٨]، قال: منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة فرضوان الله، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والربح والتجارات].
قال في نسخة أخرى: الذبائح بدلاً من الربح، لكن كلمة البدن تكفي عن الذبائح، فالربح أحسن هنا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذا قال مجاهد وغير واحد: إنها منافع الدنيا والآخرة، كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٨]].
وهذا هو الصواب، أنها منافع الدنيا والآخرة، فالحاج يشهد منافع الدنيا والآخرة، فأما منافع الآخرة فإنه يتعلم أمور دينه، يلتقي بإخوانه المسلمين ويستفيد منهم، فكم من حاج استفاد وتعلم صحة في عقيدته، واستقامة في أخلاقه وأعماله، وأما منافع الدنيا فهي ما يحصل من التجارات وغيرها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾ [الحج: ٢٨].
قال شعبة وهشيم عن أبي بشر عن سعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما: الأيام المعلومات أيام العشر، وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به].
والقاعدة أن البخاري رحمه الله إذا علق بصيغة الجزم فهو صحيح إلى من علقه عنه، ويبقى من فوقه، فيكون صحيحاً عن ابن عباس، فالأيام المعلومات هي أيام عشر ذي الحجة، والأيام المعدودات هي أيام التشريق الثلاثة، يقول تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: ٢٠٣]، فهي أيام التشريق الثلاثة، الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر.
والأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، من اليوم الأول من ذي الحجة إلى نهاية اليوم العاشر، وهي التي أقسم الله بها في قوله عز وجل: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ [الفجر: ١ - ٢]، على الصحيح من أقوال أهل العلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروي مثله عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ومجاهد وقتادة وعطاء وسعيد بن جبير والحسن والضحاك وعطاء الخراساني وإبراهيم النخعي، وهو مذهب الشافعي والجمهور عن أحمد بن حنبل.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن عرعرة قال: حدثنا شعبة عن سليمان عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: (ما العمل في أيام أفضل منها في هذه قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء)، رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة بنحوه.
وقال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح.
وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وجابر.
قلت: وقد تقصيت هذه الطرق وأفردت لها جزءاً على حده، فمن ذلك ما قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا عثمان أنبأنا أبو عوانة عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)، وروي من وجه آخر عن مجاهد عن ابن عمر بنحوه.
وقال البخاري: وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
وقد روى أحمد عن جابر مرفوعاًَ: أن هذا هو العشر الذي أقسم الله به في قوله: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ [الفجر: ١ - ٢]].
وهذه الأحاديث فيها بيان فضل العمل الصالح في الأيام العشر، والعمل الصالح هنا عام، فيشمل الصلاة والصوم والصدقة، والإحسان إلى الناس بالشفاعة وبالتوجيه، وغير ذلك من الأعمال الصالحة، وذكر هنا من الأمثلة: التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، ولذلك كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يدخلان السوق فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، فينبغي إظهار التكبير ورفع الصوت به في الأسواق وفي مجامع الناس، وهذه الأيام العشر هي أفضل أيام العام على الإطلاق، وأما العشر الأواخر من رمضان فلياليها أفضل؛ لأن فيها ليلة القدر.
وقد سئل أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: أيهما أفضل، العشر الأول من ذي الحجة، أو العشر الأواخر من رمضان؟ فأجاب بجواب سديد رحمه الله فقال: العشر الأول من ذي الحجة نهارها أفضل؛ لأن فيها يوم عرفة ويوم النحر، فيوم النحر هو أفضل أيام السنة على الإطلاق، وهو يوم العيد، وهو يوم الحج الأكبر، في أصح قولي العلماء، وفيه أعمال عظيمة، كرمي جمرة العقبة، ونحر الهدايا، وفيه حلق الرأس وفيه الطواف بالبيت والسعي، فمعظم أعمال الحج فيه، وهو يوم الحج الأكبر، ثم يليه يوم عرفة.
وقال: وليالي العشر الأخيرة من رمضان أفضل؛ لأن فيها ليلة القدر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال بعض السلف: إنه المراد بقوله: ﴿وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾ [الأعراف: ١٤٢]، وفي سنن أبي داود: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يصوم هذه العشر)].
وعلى هذا يكون الصوم مستحباً في أيام العشر؛ لأن بعض الناس يقول: إنه لم يرد الصوم في هذه الأيام العشر، فذكر المؤلف هذا الحديث لـ أبي داود: (أن النبي ﷺ كان يصوم العشر)، وحتى إذا لم يثبت هذا الحديث أو أن النبي ﷺ صام هذه العشر؛ فإن الصوم داخل في العمل الصالح، والنبي ﷺ قد يكون لم يتمكن من صومه لأجل انشغاله بالدعوة وتبليغ الرسالة، ولكن قوله: (العمل الصالح) عام، والصيام من العمل الصالح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا العشر مشتملة على يوم عرفة الذي ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة قال: سئل رسول الله ﷺ عن صيام يوم عرفة فقال: (أحتسب على الله أن يكفر به السنة الماضية والآتية)، ويشتمل على يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، وقد ورد في حديث أنه أفضل الأيام عند الله.
وبالجملة فهذا العشر قد قيل: إنه أفضل أيام السنة، كما نطق به الحديث، وفضله كثير على عشر رمضان الأخير؛ لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك من صلاة وصيام وصدقة، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه، وقيل: ذلك أفضل لاشتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وتوسط آخرون فقالوا: أيام هذا أفضل وليالي ذاك أفضل، فبهذا يجتمع شمل الأدلة، والله أعلم].
وهذا هو الصواب والأرجح، كما فسر هذا أبو العباس بن تيمية، فتبين لنا أن المسألة فيها ثلاثة أقوال لأهل العلم: القول الأول: إن العشر الأول من ذي الحجة أفضل، والقول الثاني: إن العشر الأواخر من رمضان أفضل، والقول الثالث: التوسط، وهو أن أيام العشر الأول من ذي الحجة أفضل، وليالي العشر الأخيرة من رمضان أفضل؛ لأن ليالي العشر الأخيرة من رمضان فيها ليلة القدر؛ ولأن أيام العشر الأول من ذي الحجة فيها يوم النحر ويوم عرفة، فهذا القول الوسط، وهو الأرجح والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قول ثان في الأيام المعلومات: قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس الأيام المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده، ويروى هذا عن ابن عمر وإبراهيم النخعي وإليه ذهب أحمد بن حنبل في رواية عنه.
قول ثالث: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن المديني حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا ابن عجلان حدثني نافع أن ابن عمر كان يقول: الأيام المعلومات والمعدودات هن جميعهن أربعة أيام، فالأيام المعلومات: يوم النحر ويومان بعده، والأيام المعدودات: ثلاثة أيام بعد يوم النحر، هذا إسناد صحيح إليه، وقاله السدي وهو مذهب الإمام مالك بن أنس، ويعضد هذا القول والذي قبله قوله تعالى: ﴿عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾ [الحج: ٢٨] يعني به: ذكر الله عند ذبحها.
قول رابع: إنها يوم عرفة ويوم النحر ويوم آخر بعده، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال ابن وهب: حدثني ابن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: المعلومات يوم عرفة، ويوم النحر وأيام التشريق.
وقوله: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَ