تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه تهوي به الريح في مكان سحيق)
قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج: ٣٠ - ٣١].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: هذا الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسك، وما لفاعلها من الثواب الجزيل، ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ﴾ [الحج: ٣٠] أي: ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيماً في نفسه، ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [الحج: ٣٠] أي: فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل، فكما على فعل الطاعات ثواب كثير وأجر جزيل، كذلك على ترك المحرمات واجتناب المحظورات].
فيكون قد جمع بين الأمرين، يعني: الثواب العظيم لمن فعل الطاعات وأدى المناسك، وكذلك من يعظم شعائر الله ويجتنب المحرمات فله أجر، فكما أن لفاعل الواجبات ثواباً، فكذلك تارك المنهيات له ثواب.
وقوله تعالى: ((ذَلِكَ)) يعني: يعود إلى ما مضى من أداء المناسك والطواف بالبيت، فيكون معنى الآية: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ﴾ [الحج: ٣٠] يعني: من فعل الواجبات فله أجر، وكذلك من ترك المحرمات فله أجر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جريج: قال مجاهد في قوله: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ﴾ [الحج: ٣٠]، قال: الحرمة مكة والحج والعمرة، وما نهى الله عنه من معاصيه كلها، وكذا قال ابن زيد.
وقوله: ﴿وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ [الحج: ٣٠] أي: أحللنا لكم جميع الأنعام، وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام.
وقوله: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ [الحج: ٣٠] أي: من تحريم: ﴿الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ [المائدة: ٣]، الآية، قال ذلك ابن جرير وحكاه عن قتادة.
وقوله: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [الحج: ٣٠]، ((مِنَ)) ههنا لبيان الجنس، أي: اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، وقرن الشرك بالله بقول الزور كقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٣]، ومنه شهادة الزور.
وفي الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله ﷺ قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت)].
فالشرك بالله أعظم الذنوب، وهو الذنب الذي لا يغفر لمن لقي الله به، وذلك لأنه أظلم الظلم، وأقبح القبيح، حيث أن المشرك صرف محض حق الله الذي لا يستحقه غيره، لمخلوق ضعيف ناقص، فالله تعالى خلق الإنسان، وأوجده من العدم، ورباه بنعمه، وهو الرب العظيم الذي له الصفات العظيمة، وله على عباده النعم الظاهرة والباطنة، فكيف يعبد غيره سبحانه وتعالى، ويصرف الحق إلى غيره، فهذا أظلم الظلم وأقبح القبيح.
ثم يليه قتل النفس، فهو من أعظم الذنوب كذلك، ثم عقوق الوالدين.
وشهادة الزور ليست أعظم من الشرك، لكن النبي عليه الصلاة والسلام كررها، كما ورد في الحديث: (وما زال يكررها، قال: ألا وشهادة الزور ألا وقول الزور، وكان متكئاً فجلس، حتى قال الصحابة ليته سكت) يعني: أنهم خافوا عليه حتى لا يشق على نفسه، والسبب في تكرارها هو أن شهادة الزور الحامل عليها والدوافع إليها كثيرة، فيحمل عليها مثلاً حب المال، ويحمل عليها إرادة منفعة القريب فيشهد له، أو اضرار العدو فيشهد عليه، فالحامل عليها والباعث لها أمور متعددة، فلهذا كررها النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم تكن أعظم الذنوب، فمعلوم أن الشرك أعظم، وقتل النفس أعظم، وعقوق الوالدين أعظم منها في الإثم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد حدثنا مروان بن معاوية الفزاري أنبأنا سفيان بن زياد عن فاتك بن فضالة عن أيمن بن خريم قال: (قام رسول الله ﷺ خطيباً فقال: أيها الناس! عدلت شهادة الزور إشراكاً بالله ثلاثاً، ثم قرأ: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [الحج: ٣٠]).
وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن مروان بن معاوية به، ثم قال: غريب، إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد وقد اختلف عنه في رواية هذا الحديث، ولا نعرف لـ أيمن بن خريم سماعاً من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد رحمه الله أيضاً: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا سفيان العصفري عن أبيه عن حبيب بن النعمان الأسدي عن خريم بن فاتك الأسدي قال: (صلى رسول الله ﷺ الصبح، فلما انصرف قام قائماً فقال: عدلت شهادة الزور الإشراك بالله عز وجل، ثم تلا هذه الآية: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ [الحج: ٣٠ - ٣١])].
وهذان الطريقان وإن كان فيهما خريم بن فاتك وهو مجهول ولم يعرف له سماع عن رسول الله ﷺ إلا إن ذكر الله لقول الزور مقروناً بالشرك بالله يكفي في تحريمه وأنه من أعظم الذنوب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال سفيان الثوري عن عاصم بن أبي النجود عن وائل بن ربيعة عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: تعدل شهادة الزور الإشراك بالله، ثم قرأ هذه الآية.