أطوار الإذن بالجهاد وأسبابه
قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: ٣٩] هذه أول الآيات التي نزلت في الجهاد، وذلك أن الجهاد له أطوار وأحوال، والمسلمون لهم أحوال، فلما كان المسلمون في مكة كانوا قلة، والنبي ﷺ معه العدد القليل، وكان الكفرة هم الذين لهم الغلبة وهم الأقوياء، والمسلمون كانوا مستضعفون ويؤذون، وكان النبي ﷺ منهياً عن القتال وعن الجهاد ولم يؤمر بالجهاد، بل كان مأموراً بالصفح عنهم والعفو عنهم، فقال له تعالى: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ﴾ [الزخرف: ٨٩] وقال: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٩] وقال: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ١٠٦] فأمر عليه الصلاة والسلام بالإعراض والصفح عن المشركين، لأن المسلمين كانوا قلة ولا يستطيعون مقابلة الكفرة؛ ولأنهم مستضعفون، والمسلمون كيف يقابلون المشركين وليس معهم عدد ولا عدة، فلو أمروا بالقتال لقضى عليهم المشركون ففي مكة أمر النبي ﷺ بالصفح عنهم والعفو والإعراض، فلما اشتد أذى قريش للنبي ﷺ وأصحابه أذن الله له بالهجرة إلى المدينة، وأصحابه شردوا وأوذوا فمنهم من هاجر إلى الحبشة، ومنهم من هاجر إلى المدينة، فحين اشتد أذى قريش وتآمروا على قتل النبي ﷺ أمره الله وأذن له بالهجرة، وأخرجه من بين أظهرهم، حتى إنهم أعدوا شباباً أمام بيته ينتظرون خروجه لقتله، فالله تعالى ألقى عليهم النوم، وخرج النبي ﷺ من بين أظهرهم، وذر على رءوسهم التراب، وخرج إلى الغار وجلس فيه ثلاثة أيام هو وصاحبه أبو بكر، وجاء الطلب، وجعلوا مائة ناقة لمن يأتي بمحمد ﷺ حياً أو ميتاً، وجاء الطلب حتى جاءوا إلى الغار ونظروا فوق الغار وعن اليمين وعن الشمال، ولكن الله أعماهم فلم يروه، فالله تعالى على كل شيء قدير، كما أن الجن يروننا ولا نراهم، فكذلك كان النبي ﷺ وصاحبه يريان المشركين وهم لا يرونهما، أعماهم الله، ولما قال أبو بكر رضي الله عنه: (يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
فلما هاجر إلى المدينة عليه الصلاة والسلام وتقوى، وكانت المدينة هي معقل الإسلام ومقراً للمسلمين، وتقوى المسلمون وكان لهم أتباع وأنصار، وأسلم كثير من الأنصار في الموسم بعد بيعة النبي ﷺ مرتين، وأذن الله تعالى لهم بالجهاد؛ لأنهم مظلومون، فالله تعالى أنزل هذه الآية: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: ٣٩] يعني: لما ظلمت قريش المسلمين، وأخرجوهم من ديارهم من مكة، وأخذوا أموالهم وآذوهم وشردوهم، أذن الله لهم بالجهاد، قال: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ [الحج: ٣٩] فهذه أول آية نزلت في الجهاد، ثم بعد ذلك نزلت الآية الأخرى وأذن الله لهم بالقتال لكن قتال الدفع، يقاتل من قاتله ولا يبدؤهم بقتال، ولا يهجم عليهم بالقتال، فأنزل الله قوله عز وجل: ﴿وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ [البقرة: ١٩١] يعني: قتال مدافعة.
﴿كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ١٩١] هذا الطور الثاني.
الطور الأول: أنهم منهيون عن الجهاد في مكة، والطور الثاني بعد الهجرة أذن ورخص في جهاد الدفع.
أما الطور الثالث: فقد أذن الله بقتال من قاتل والكف عمن لم يقاتل.
ثم جاء الطور الرابع في الجهاد: وهو أن الله أمر بالقتال هجوماً ودفاعاً، فأنزل قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦].
وأنزل سبحانه: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ [التوبة: ٥] فهذه أطوار وأحوال الجهاد.
في هذه الآية يقول الله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: ٣٩] فهو قادر سبحانه وتعالى، ولكنه شرع الجهاد ليبذل المسلمون جهدهم وقوتهم، وليظهر نصرهم لدين الله، ابتلاء وامتحاناً واختباراً، ليتبين الصادق من الكاذب، وليظهر ظهور عيان من يحب الله ورسوله بأن يبذل نفسه وماله في الجهاد في سبيل الله، كما بين الله في هذه الآيات التي سمعنا، قال سبحانه: ﴿وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ [محمد: ٤].
وقال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ [محمد: ٣١].
وقال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٢].
ففيها ابتلاء وامتحان واختبار من الله عز وجل؛ ليتبين الصادق من الكاذب، وليتخذ الله شهداء من المؤمنين، وليعظم الله لهم الأجور، ولهذا قال سبحانه: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: ٣٩] أي: قادر سبحانه وتعالى أن ينصرهم في لحظة واحدة بكلمة كن، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢] لكنه سبحانه وتعالى شرع الجهاد لحكم وأسرار، كما بين الله سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ﴾ [النساء: ١٠٤].
وبين في آية أخرى شيئاً من الحكم فقال: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٠ - ١٤١] تمحيص للمؤمنين ومحق للكافرين، واتخاذ الشهداء من المؤمنين، وغير ذلك من الحكم التي ذكرها سبحانه وتعالى.
وقال تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٠ - ١٤١] كل هذه من الحكم والأسرار، وإلا فالله قادر على نصرهم، ولهذا قال: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: ٣٩] وبين سبحانه وتعالى المسوغ للجهاد، قال: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [الحج: ٤٠] أي: ليس لهم ذنب إلا أنهم وحدوا الله وأفردوه بالعبادة، هذا ليس بذنب وإن كان عند المشركين أكبر ذنب، كما قال سبحانه في أصحاب الأخدود: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [البروج: ٨ - ٩].
ثم بين سبحانه أنه لولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض يدفع هؤلاء بهؤلاء، وينصر عباده بما يخلق من الأسباب؛ لهدمت هذه المعابد المتعبدة والصوامع وهي مكان العبادة للرهبان، والبيع للنصارى، والصلوات لليهود، والمساجد للمسلمين، قال تعالى: ﴿لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: ٤٠].
وسيأتي في الآيات التي بعدها بيان أسباب النصر.