تفسير قوله تعالى: (نحن نقص عليك نبأهم بالحق)
قال الله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: ١٣] ذكر الله تعالى قصة أصحاب الكهف مختصرة ثم هاهو يذكرها مفصلة فقال: ﴿نحن نقص عليك أحسن القصص﴾ [الكهف: ١٣]، وهذا أسلوب بلاغي معروف في اللغة العربية، وهو أن يذكر الشيء مختصراً مجملاً ثم يفصل بعد ذلك، فالله تعالى أجملها ثم فصلها، قال: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ﴾ [الكهف: ١٣] فهنا بدأ في التفصيل، بعد أن ذكرها مجملة فقال: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾ [الكهف: ٩ - ١٢] ثم فصلها سبحانه بعد ذلك فقال: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ﴾ [الكهف: ١٣].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [من هاهنا شرع في بسط القصة وشرحها، فذكر الله تعالى أنهم فتية وهم الشباب، وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله ﷺ شباباً، وأما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل.
وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شباباً].
يعني: أن الشباب هم أقبل للحق من غيرهم، أما الشيوخ الكبار الذين شاخوا على معتقداتهم مثل: شيوخ الرافضة وشيوخ البهائية والبابية وغيرهم فيثبتون على عقائدهم الفاسدة، وإنما الذي يتأثر منهم بالحق هم الشباب، وكذلك أيضاً الدعوات الهدامة يقبلها في الغالب الشباب، أما الشيوخ الكبار الذين تربوا على الحق وشابوا لا يقبلونها، فالشباب هم المحك، وهم عماد الأمة، وهم الذين تبني عليهم الأمم الآمال، وهم عماد المستقبل، والشباب سريعو التأثر، فأصحاب الكهف فتية كانوا شباباً آمنوا بربهم، ثبتهم الله لما آمنوا، وزادهم هدى، وهذا فيه أن الإيمان يزيد وينقص، ولهذا قال تعالى: ((وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)).
إذاً: الشباب هم أقبل للدعوات، للحق وللباطل من غيرهم، وهؤلاء الشباب أصحاب الكهف لما آمنوا واستجابوا وانقادوا أثابهم الله وزادهم هدى، وربط على قلوبهم وثبتهم، وهؤلاء الشباب لجئوا إلى الله وتضرعوا إليه ودعوه أن يهيئ لهم من أمره رشداً، فعلى المؤمن أن يفعل الأسباب ويلجأ إلى الله عز وجل، ويجاهد نفسه على العمل الصالح، ويضرع إلى الله أن يثبت قلبه، وإلا يزيغ قلبه بعد أن هداه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد: بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة.
يعني الحلق، فألهمهم الله رشدهم وآتاهم تقواهم فآمنوا بربهم أي اعترفوا له بالوحدانية، وشهدوا أنه لا إله إلا هو ﴿وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ استدل بهذه الآية وأمثالها غير واحد من الأئمة كـ البخاري وغيره ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله وأنه يزيد وينقص، ولهذا قال تعالى: ((وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)) كما قال: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾ [محمد: ١٧] وقال ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٤] وقال: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح: ٤] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك].
يعني: الآيات الدالة على أن الإيمان يزيد وينقص كثيرة، وكذلك النصوص في أن الكفر يزيد وينقص، من ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٥] فالإيمان يزيد وينقص والكفر أيضاً يزيد وينقص، هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، خلاف أهل البدع الذين يقولون: إن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، وإيمان أهل السماء وإيمان أهل الأرض واحد، والتفاوت بينهم بالأعمال، وهذا باطل؛ لأن النصوص في أن الإيمان يزيد وينقص كثيرة منها قوله تعالى: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح: ٤] وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح: ٤] وقوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٤] وقوله: ﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا﴾ [المدثر: ٣١] فالإيمان يزيد وينقص ويقوى ويضعف، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى ابن مريم، فالله أعلم، والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية، فإنهم لو كانوا على دين النصرانية لما اعتنى أحبار اليهود بحفظ خبرهم وأمرهم لمباينتهم لهم]؟ يعني: يقول: إن هؤلاء لم يكونوا في زمن المسيح أو قبله؛ لأن أحبار اليهود اعتنوا بحفظ خبر هؤلاء الفتية، ولو كانوا في زمن المسيح لما اعترفوا بهم؛ للعداوة التي بينهم وبين النصارى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد تقدم عن ابن عباس: أن قريشاً بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة، يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء، وعن خبر ذي القرنين، وعن الروح، فدل هذا على أن هذا أمر محفوظ في كتب أهل الكتاب، وأنه متقدم على دين النصرانية والله أعلم].


الصفحة التالية
Icon