تفسير قوله تعالى: (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة)
قال تعالى: ﴿هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الكهف: ١٥].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: هلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلاً واضحاً صحيحاً، ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ يقولون: بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك، فيقال: إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله أبى عليهم وتهددهم وتوعدهم، وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم، وأجلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه، وكان هذا من لطف الله بهم، فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه، والفرار بدينهم من الفتنة].
يعني: استدل المؤلف الحافظ ابن كثير رحمه الله على أن أصحاب الكهف الذين فروا بدينهم من قومهم لم يتعارفوا، وإنما جمعهم الإيمان، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) وأن أرواحهم ائتلفت بعضها ببعض، ولهذا هرب كل واحد من قومه واجتمعوا في مكان واحد، ثم بعد ذلك أظهر كل واحد منهم ما عنده.
فهذا سبب في انضمام بعضهم إلى بعض، فهم اجتمعوا وأبدوا ما عندهم، ثم بعد ذلك اجتمعوا في مكان يعبدون الله؛ فعلم بهم هذا الملك -ملكهم الظالم- فدعاهم، فجاءوا ودعوه إلى الله وإلى توحيده وإخلاص الدين له، فأبى عليهم وهددهم وتوعدهم، وبينوا له صحة التوحيد ووجوبه، وأن الشرك باطل وأظلم الظلم.
ولهذا قالوا له: ﴿هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الكهف: ١٥].
وقالوا: ﴿رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ [الكهف: ١٤]؛ ولهذا يستفاد من قصة أصحاب الكهف صحة التوحيد وبطلان الشرك، فهذا من أعظم الفوائد.
فأصحاب الكهف دعوا مكلهم إلى توحيد الله عز وجل، قال سبحانه وتعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الكهف: ١٣ - ١٤].
وقبل هذه الآيات قال سبحانه: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ [الكهف: ٩]، الكهف: هو الغار في الجبل، والرقيم: هو الكتاب المرقوم الذي كتبت فيه قصتهم.
يقول سبحانه وتعالى: إن قصة أصحاب الكهف والرقيم ليس عجيباً في سلطاننا وقدرتنا؛ فخلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتسيير الشمس والقمر والنجوم أعجب من ذلك: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ [الكهف: ٩].
ومن فوائد هذه القصة: أن من أسلوب القرآن البلاغي الإجمال ثم التفصيل؛ فإن الله تعالى أجمل قصة أصحاب الكهف ثم فصلها، فهذا أسلوب بلاغي معروف في اللغة العربية، والقرآن في الأسلوب البلاغي وصل إلى درجة عالية، فهو حجة في الأسلوب البلاغي؛ ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى أجمل قصة أصحاب الكهف ثم فصلها.
وبين سبحانه وتعالى أن أصحاب الكهف دعوا إلى توحيد الله عز وجل، وأظهروا التوحيد ودعوا إليه، وبينوا بطلان الشرك، ولهذا قال سبحانه: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ [الكهف: ١٣ - ١٤].
فيه: أن الله تعالى من عليهم وهداهم.
وفيه: أن الشباب أقرب إلى الحق من الشيوخ الذين نشئوا على الشرك والباطل، فالشباب في الغالب هم الذين يقبلون الحق، أما الشيوخ الذين نشئوا على الشرك وشاخوا عليه ففي الغالب أنهم لا يتزحزحون.
وفيه: منة الله سبحانه وتعالى على أصحاب الكهف، حيث قال سبحانه: ((وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ))، حيث ثبتهم على التوحيد والإيمان مع شدة الفتنة، وتركوا زينة الدنيا ومظاهرها والترف، وكان قومهم أصحاب ترف.
وكذلك أنهم أبناء ملوك، ومع ذلك ثبتهم الله على التوحيد وهداهم، وربط على قلوبهم، ففارقوا قومهم وفارقوا ما هم فيه من الترف ورغد العيش، وثبتوا على التوحيد والإيمان، ودعوا قومهم إلى التوحيد وناظروهم وبينوا لهم بطلان الشرك.
ولهذا أخبر الله عنهم، فقال: ﴿إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ [الكهف: ١٤] يعني: قولاً باطلاً.
قوله: ﴿هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾ [الكهف: ١٥] هذا فيه دليل على أن قومهم كانوا على الشرك، ﴿لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ﴾ [الكهف: ١٥]، يعني: هلا أتوا عليهم بسلطان، ولا يوجد سلطان ولا دليل على الشرك، فالشرك واضح، ولهذا قال سبحانه وتعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الكهف: ١٥].
وفي هذه القصة: إثبات النبوة لنبينا صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أخبر عن هذه القصة وهي وقعت في الدهر الأول، ولا يعلم هذا إلا من الوحي، ولهذا استدل بذلك اليهود على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فهم سألوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين، وقالوا: لا يعلم بهذا إلا نبي، فكان هذا دليلاً على نبوته عليه الصلاة والسلام.
وفي هذا دليل على إثبات البعث والمعاد، فإن الله تعالى أنامهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين، ثم أيقظهم بعد ذلك.
وفيه دليل على أن اليقظة بعد النوم تسمى بعثاً، ولهذا قال: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ﴾ [الكهف: ١٢]، فاليقظة بعد النوم: بعث، والنوم في الليل: وفاة صغرى، ولهذا قال: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾ [الكهف: ١٢].
وقال سبحانه وتعالى في آية سورة الأنعام: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى﴾ [الأنعام: ٦٠]، فسمى النوم بالليل وفاة، وسمى اليقظة بالنهار بعثاً.
فهذه القصة فيها هذه الفوائد العظيمة: صحة التوحيد ووجوبه، وبطلان الشرك، وإثبات النبوة، وإثبات البعث والمعاد.
أما قول المؤلف: (إن لن للنفي المؤبد المستقبلي) فهي لنفي المستقبل، لكنها لا تدل على التأبيد على الصحيح، ولهذا أخبر الله عن الكفار أنهم لن يتمنوه، قال: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ [البقرة: ٩٥]، ثم أخبر في آية أخرى أنهم تمنوه في النار، قالوا: ﴿يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ [الزخرف: ٧٧]، فلو كانت للتأبيد لما تمنوا الموت.
ولهذا يقول ابن مالك رحمه الله في ألفيته: ومن رأى النفي بلن مؤبداً فقوله اردد وسواه فاعضدا أي: قوله مردود وضعيف، والصواب: أن لن ليست للتأبيد، وإنما هي للنفي في المستقبل، لكنها لا تدل على التأبيد حتى ولو قيدت للتأبيد، كما قيدها الله في قوله: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ [البقرة: ٩٥]؛ لأنها لو كانت للتأبيد لما أجاز تحديد الفعل بعدها في قول الله تعالى عن إخوة يوسف: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي﴾ [يوسف: ٨٠].
((فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ)) ثم جاء تحديدها بقوله: ((حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي)) فليست للتأبيد؛ لأنه حدد الفعل بعد لن.
حتى لو قيدت للتأبيد فلا تدل على دوام النفي في الآخرة، قال تعالى: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ [البقرة: ٩٥]، ثم أخبر أنهم تمنوا الموت في النار، فقال الله عنهم: ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ [الزخرف: ٧٧] وهذا تمنٍ للموت.
المعتزلة يقولون: إن الله تعالى لا يُرى في الآخرة، واستدلوا بقول الله تعالى عن موسى: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ [الأعراف: ١٤٣]، قالوا: لن تفيد النفي المؤبد.
فبين العلماء أنها لا تدل على النفي المؤبد، وإنما ((لَنْ تَرَانِي)) المراد لن تراني في الدنيا؛ لأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس أن يفر العبد منهم خوفاً على دينه، كما جاء في الحديث: (يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن)، ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس ولا تشرع فيما عداها؛ لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع].
نعم هذا هو المشروع للمسلم أن يبقى في المدن والقرى يشهد الجمعة والجماعة والدعوة إلى الله وحلق الذكر والتعليم.
فالمدن والقرى إذا كان فيها خير فلا يجوز للإنسان أن يخرج إلى البراري ويتعرب، ويكون في البادية، بل إن التعرب جاء النهي عنه، التعرب والسكنى في الصحراء والبادية منهي عنه، وهو من المعاصي؛ لأن التعرب والسكنى في الصحراء يفوت الجمع والجماعات، ويفوت سماع الذكر والخير، ولو لم يفت عليه إلا الجمعة وسماع الخطبة التي هي موعظة الأسبوع، وكذلك الجماعة لما فيها من الخير، وكذلك سماع النصائح.
ولهذا فإن الأعراب أخبر الله عنهم بقوله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيم