تفسير قوله تعالى: (وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم)
قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾ [الكهف: ١٩ - ٢٠].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: كما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم لم يفقدوا من أحوالهم وهيئاتهم شيئاً؛ وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين، ولهذا تساءلوا بينهم: ((كَمْ لَبِثْتُمْ)) أي: كم رقدتم؟ ((قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ))؛ لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول النهار، واستيقاظهم كان في آخر نهار؛ ولهذا استدركوا فقالوا: ((أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ)) أي: الله أعلم بأمركم، وكأنه حصل لهم نوع تردد في كثرة نومهم فالله أعلم.
ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب، فقالوا: ((فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ)) أي: فضتكم هذه؛ وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها، فتصدقوا منها، وبقي منها، فلهذا قالوا: ((فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ)) أي: مدينتكم التي خرجتم منها والألف واللام للعهد.
((فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا)) أي: أطيب طعاماً؛ كقوله: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾ [النور: ٢١]، وقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ [الأعلى: ١٤]، ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره، وقيل: أكثر طعاماً، ومنه زكا الزرع إذا كثر قال الشاعر: قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة والسبع أزكى من ثلاث وأطيب والصحيح الأول؛ لأن مقصودهم إنما هو الطيب الحلال سواء كان كثيراً أو قليلاً.
فأزكى طعاماً في اللفظ، أي: أطيب طعاماً.
قال بعضهم: أكثر، والصواب: أن المراد الطعام الطيب الحلال، وليس المراد الكثرة.
وهذا من حكمة الله تعالى، فقد أحسوا بالجوع لما استيقظوا، فأرسلوا واحداً منهم يشتري طعاماً حتى يطلع الناس عليهم، ويعلموا خبرهم، فلما ذهب وجد المدينة تغيرت والناس قد تغيروا، وكذلك أيضاً العملة تغيرت، فاستغربوا لما أعطاهم العملة ووقد مضى عليها ثلاثمائة وتسع سنين! فالعملة قد تغيرت، وتغيرت البلاد ومن عليها، وتغير الناس والملوك؛ فظنوا أن ملكهم الأول ما زال باقياً، فخافوا منه.
قوله: ((كَمْ لَبِثْتُمْ))؟ قال بعضهم: ((لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ))، فهم يتكلمون فيما بينهم.
وفيه: أنه يجب على الإنسان أن يكل العلم إلى الله في الشيء الذي لا يعلمه.
وفيه: أن اليقظة بعد النوم تسمى بعثاً، والوفاة بالليل تسمى الموتة الصغرى، قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر: ٤٢]، وقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾ [الأنعام: ٦٠].
فالنوم في الليل وفاة صغرى، واليقظة بعد ذلك حياة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (يتلطف) أي: في خروجه وذهابه، وشرائه وإيابه، يقولون: وليختف كل ما يقدر عليه ((وَلا يُشْعِرَنَّ)) أي: ولا يعلمن ((بِكُمْ أَحَدًا))، ((إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ)) أي: إن علموا بمكانكم ((يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ)) يعنون أصحاب دقيانوس يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم فلا يزالوا يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها أو يموتوا، فإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة.
ولهذا قال: ((وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا))].
يعني: أنهم أرسلوا واحداً منهم ليشتري الطعام، وقالوا: اختف عن الناس، وظنوا أن ملكهم باقٍ، فقالوا: اختف واشتر بخفية وائت لئلا يطلع عليك؛ لأنهم إن اطلعوا علينا وعرفوا مكاننا: إما أن يفتنونا عن ديننا وإما أن يرجمونا، وإذا فتنونا في ديننا ووافقناهم هلكنا أبد الدهر.
ولا يلزم من هذا أنهم يؤاخذون بالإكراه يعني: قد يفتنوهم في دينهم من شدة الفتنة يوافقونهم، فقد يكره الإنسان ثم يوافق بعد ذلك.
ولهذا قال الله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ [النحل: ١٠٦]، قال العلماء: إلا من فعل الكفر متعمداً فهذا يكفر، ومن فعل الكفر هازلاً يكفر، ومن فعل الكفر خائفاً يكفر، ومن فعل الكفر مكرهاً واطمأن قلبه بالكفر يكفر، ومن فعل الكفر واطمأن قلبه بالإيمان لا يكفر.
فإذاً: قد يكره الإنسان ثم بعد ذلك يطمئن قلبه بالكفر والعياذ بالله نسأل الله السلامة والعافية.
فهذه خمس حالات أربع حالات منها يكفر فيها، ولا يكفر إذا فعل الكفر مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان.
فهذا هو الاطمئنان، قال تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ [النحل: ١٠٦].
فهذه خمس حالات، الإنسان في الحالات الأربع يكفر، وفي الحالة الأخيرة لا يكفر، وهي: ما إذا أكره واطمأن قلبه بالإيمان، نسأل الله السلامة والعافية.


الصفحة التالية
Icon