تفسير قوله تعالى: (كهيعص واجعله رب رضياً)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بسم الله الرحمن الرحيم ﴿كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ [مريم: ١ - ٦].
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة].
والصواب من الأقوال: أن الحروف المقطعة الله أعلم بالمراد بها، فهي مما استأثر الله بعلمه، وقد قال بعضهم: إن الحروف المقطعة فيها إشارة إلى أن القرآن إنما هو من هذه الحروف الثمانية والعشرين، ومع ذلك فقد تحدى الله البشر أن يأتوا بمثله فعجزوا، وأن يأتوا بعشر سور فعجزوا، وأن يأتوا بسورة فعجزوا.
واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وجمع من أهل العلم.
وقال بعضهم: إن فيها الإشارة إلى أن كل حرف فيها يدل على اسم من أسماء الله، لكن هذا قول لا وجه له.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ))، أي: هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا].
وزكريا نبي من أنبياء بني إسرائيل عليه الصلاة والسلام، وكذلك ابنه يحيى من أنبياء بني إسرائيل الذين جاءوا بعد موسى عليه الصلاة والسلام وكلفوا بالعمل بالتوراة، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ﴾ [المائدة: ٤٤]، فالأنبياء الذين جاءوا بعد موسى كلهم كلفوا بالعمل بالتوراة ويقال لهم أنبياء، ولا يطلق عليهم (رسل)، ويوحى إليهم وحياً خاصاً يتعلق بالمؤمنين ولا يرسلون إلى قوم كافرين، وهذا هو الصواب في الفرق بين النبي والرسول.
أما الرسول فإنه يرسل إلى أمة كافرة فيؤمن به بعضهم ويرد عليه دعوته بعضهم، وهم أهل الشرائع مثل: نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وقد أرسلوا إلى أمم عظيمة فآمن بهم بعضهم وكفر بهم بعضهم.
أما النبي فإنه يكلف بالعمل بشريعة سابقة ولا يرسل إلى الناس كافة، وإنما يرسل للمؤمنين مثل: داود وسليمان وزكريا، فقد كلفوا بالعمل بالتوراة، حتى جاء عيسى عليه السلام فأنزل الله عليه الإنجيل وفيه تخفيف لبعض الأحكام فقد أحل لهم بعض المحرمات كما أخبر الله عز وجل: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران: ٥٠].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقرأ يحيى بن يعمر: (ذكَّر رحمة ربك عبده زكريا_.
قال في الحاشية: وقيل هو فعل ماض وقيل فعل أمر.
والأقرب أنه فعل أمر فقال: ذكِّر يا محمد! بهذه القصص الواردة في القرآن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وزكريا يمد ويقصر، قراءتان مشهورتان].
وزكرياء يكون بألف وبعده همزة فيكون ممدوداً، أو زكريا بألف بدون همز فيكون مقصوراً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان نبياً عظيماً من أنبياء بني إسرائيل، وفي صحيح البخاري أنه كان نجاراً] أي: كان يأكل من عمل يديه في النجارة، وهذا يدل على أن العمل والصناعة ليست عيباً، وإنما هي الشرف، فكون الإنسان يأكل من صنعة يده ليس عيباً، بل العيب أن يكون الإنسان عالة يتكفف الناس وهو يستطيع العمل، ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول)، واليد العليا اليد المنفقة، واليد السفلى هي اليد الآخذة، ولا تكون يد الإنسان هي اليد العليا إلا إذا اشتغل فيبيع ويشتري ويحرث ويزرع، وتكون بيده صنعة كالنجار أو الحداد أو البناء أو السباك أو الكهربائي والمبلط فكل هذه أعمال يتكسب بها الإنسان ويستغني بها عن الناس، ولهذا كان الأنبياء في أيديهم صنعة عمل، قال عليه الصلاة والسلام: (ما من نبي إلا ورعى الغنم، قالوا: وأنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة).
وقال عليه السلام ما معناه: (أفضل ما كسب الإنسان عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور).
وكان زكريا نجاراً، وكان نوح حداداً، وكان العلماء والمحدثون وغيرهم في أيديهم صناعات فينسبون إلى صناعاتهم منها البزاز والصباغ والجصاص.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾ [مريم: ٣]، قال بعض المفسرين: إنما أخفى دعاءه لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره، حكاه الماوردي، وقال آخرون: إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله].
وهذا هو الصواب؛ لأنه أحب إلى الله، قال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف: ٥٥]، وكلما كان العمل خفياً كان أقرب إلى الإخلاص، فإذا دعا العبد ربه دعاء خفياً يكون أقرب إلى الإخلاص وهو أحب إلى الله من الجهر، كما قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [الأعراف: ٢٠٥]، فهو أحب إلى الله، أما القول الأول فهو يقول حتى لا يعيبه الناس إذا سمعوه وهو يطلب ولداً وهو كبير في السن قد تجاوز الحد، فسيقولون: هذا ضعيف العقل، لكن هذا قول ضعيف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال قتادة في هذه الآية: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾ [مريم: ٣]، إن الله يعلم القلب التقي ويسمع الصوت الخفي، وقال بعض السلف: قام من الليل عليه السلام وقد نام أصحابه فجعل يهتف بربه يقول خفية: يا رب يا رب يا رب! فقال الله: لبيك لبيك لبيك.
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾ [مريم: ٤]، أي: ضعفت وخارت القوى.
﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ [مريم: ٤]، أي: اضطرم المشيب في السواد، كما قال ابن دريد في مقصورته: أما تري رأسي حاكى لونه طرة صبح تحت أذيال الدجى واشتعل المبيض في مسوده مثل اشتعال النار في جمر الغضا].
وهذا توسل من زكريا عليه السلام إلى الله، وقد توسل بنوعين من أنواع التوسل، النوع الأول: التوسل بربوبية الله وذلك في قوله: (رب)، وهذا من أسباب قبول الدعاء.
والثاني: التوسل بحاجته وضعفه وذلك في قوله: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ [مريم: ٤]، وهذا مثل قول الله تعالى عن موسى: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: ٢٤]، يعني: أنا فقير بما أنزلت إلي، فتوسل بحاله وضعفه وحاجته.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمراد من هذا: الإخبار عن الضعف والكبر ودلائله الظاهرة والباطنة.
وقوله: ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ [مريم: ٤]، أي: ولم أعهد منك إلا الإجابة في الدعاء، ولم تردني قط فيما سألتك.
وقوله: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي﴾ [مريم: ٥]، قرأ الأكثرون بنصب الياء (من الموالي) على أنه مفعول، وعن الكسائي أنه سكن الياء، كما قال الشاعر: كأن أيديهن في القاع القرق أيدي جوار يتعاطين الورق.
والأصل أن يقول أيديهن؛ لأنه مفعول به، مثل: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي﴾ [مريم: ٥].
وفي قراءة (وإني خفت المواليْ) بالسكون، وقد سكن (أيديْهن) في الشعر.
والورق هي: الفضة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الآخر: فتى لو يباري الشمس ألقت قناعها أو القمر الساري لألقى المقالدا].
والشاهد أنه قال: الساري ولم يقل الساريَ، وقوله: لو يباري الشمس أي: في جماله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنه قول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي: تغاير الشعر فيه إذ سهرت له حتى ظننت قوافيه ستقتتل].
والشاهد قوله: قوافيه، ولم يقل: قوافيَه، وهذا معروف في لغة العرب، فالأصل أن يقول: قوافية، ولكنه سكنها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد وقتادة والسدي: أراد بالموالي العصبة، وقال أبو صالح: الكلالة، وروي عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يقرؤها: (وإني خَفّتِِ الموالي من روائي) بتشديد الفاء بمعنى قلت عصباتي من بعدي].
فيصح أن يقال: عصبتي أو عصباتي فالمعنى واحد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعلى القراءة الأولى وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفاً سيئاً، فسأل الله ولداً يكون نبياً من بعده ليسوسهم بنبوته وما يوحي إليه].
لأن الأنبياء ما بعثوا لجمع المال، وإنما بعثوا لتوجيه الناس ودعوتهم وتبلغيهم وهدايتهم وإرشادهم، فلم يخف زكريا عليه السلام الموالي أنه يورث ماله، فالأنبياء لا يرثون فما تركه الأنبياء يكون صدقة، كما ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)، وإنما أراد أن يرزقه الله ولداً يسوس الناس من بعده بالنبوة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأجيب في ذلك؛ لا أنه خشي من وراثتهم له ماله، فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدراً من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده أن يأنف من وراثة عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد فيحوز ميراثه دونه دونهم هذا وجه.
الثاني: أنه لم يذكر أنه كان ذا مال، بل كان نجاراً يأكل من كسب يديه، ومثل هذا لا يجمع مالاً ولاسيما الأنبياء عليهم السلام].
فالغالب أن صاحب المهنة والحرفة لا ي