تفسير قوله تعالى: (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ﴾ [الأنبياء: ٥]، هذا إخبار عن تعنت الكفار وإلحادهم واختلافهم فيما يصفون به القرآن وحيرتهم فيه وضلالهم عنه، فتارة يجعلونه سحراً، وتارة يجعلونه شعراً، وتارة يجعلونه أضغاث أحلام، وتارة يجعلونه مفترى، كما قال: ﴿انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٤٨]].
وهكذا هم متناقضون، فالباطل لا يستقر على شيء، فأقوالهم متضاربة متناقضة، وهذا يدل على فسادها وبطلانها فمرة يقولون ساحر، ومرة يقولون شاعر، ومرة يقولون كاهن، ومرة يقولون مجنون، ويريدون بذلك رد الحق، لكن يختلفون بأي شيء يردونه، فكلما أتوا بقول تبين لهم بطلانه، ورأوا أن الناس لا يصدقونه فينتقلون للقول الثاني وهكذا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ﴿فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ﴾ [الأنبياء: ٥]، يعنون ناقة صالح وآيات موسى وعيسى، وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا﴾ [الإسراء: ٥٩]، ولهذا قال تعالى: ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنبياء: ٦] أي: ما آتينا قرية من القرى الذين بعث فيهم الرسل آية على يدي نبيها فآمنوا بها، بل كذبوا فأهلكناهم بذلك أفهؤلاء يؤمنون بالآيات لو رأوها دون أولئك؟ كلا بل ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾ [يونس: ٩٦ - ٩٧]].
من كتب الله عليه الشقاء فلا حيلة فيه كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾ [يونس: ٩٧]، وهذا من رحمة الله تعالى بهم أنه لم يعطهم الآيات فلم يجيبوا ولو أعطوا آية ثم لم يؤمنوا بها لعوجلوا بالعقوبة؛ لأن من عادة الله أن من اقترح آية وأعطاه الله الآية التي يقترحها ثم لم يؤمن أن يعجل له بالعقوبة كما حصل لقوم صالح لما اقترحوا الناقة فأعطاهم الله إياها، فلما لم يؤمنوا أهلكهم الله، وهكذا فكل من أعطي آية فلم يؤمن بها عذب وأهلك، ومن هؤلاء أصحاب المائدة على القول بأنها نزلت كما قال تعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة: ١١٥].
وهذا قاله سبحانه لما طلبوا من النبي ﷺ الآيات فقالوا: يا محمد! اسأل ربك أن يفتح لنا هذه الجبال التي بمكة فقد ضيقت علينا؛ حتى نزرع ونبذر مثلما يبذر أهل الأمصار، أو اسأل ربك أن يجعلها لنا ذهباً.
وهكذا آيات اقتراحية كما أخبر الله في سورة الإسراء: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه﴾ [الإسراء: ٩٠ - ٩٣]، فكلها آيات اقتراحية، ولكن من رحمة الله أنه ما أجابهم؛ لأنهم لو أجيبوا ثم لم يؤمنوا لعوجلوا بالعقوبة.
قال رحمه الله تعالى: [هذا كله وقد شاهدوا من الآيات الباهرات والحجج القاطعات والدلائل البينات على يدي رسول الله ﷺ ما هو أظهر وأجلى وأبهر وأقطع وأقهر مما شوهد مع غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
قال ابن أبي حاتم رحمه الله: ذكر عن زيد بن الحباب: حدثنا ابن لهيعة حدثنا الحارث بن زيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي حدثني من شهد عبادة بن الصامت يقول: (كنا في المسجد ومعنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرئ بعضنا بعضاً القرآن فجاء عبد الله بن أبي ابن سلول ومعه نمرقة وزربية، فوضع واتكأ، وكان صبيحاً فصيحاً جدلاً، فقال: يا أبا بكر، قل لمحمد يأتينا بآية كما جاء الأولون، جاء موسى بالألواح وجاء داود بالزبور وجاء صالح بالناقة وجاء عيسى بالإنجيل وبالمائدة، فبكى أبو بكر رضي الله عنه، فخرج رسول الله ﷺ فقال أبو بكر: قوموا إلى رسول الله ﷺ نستغيث به من هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لا يقام لي إنما يقام لله عز وجل، فقلنا: يا رسول الله، إنا لقينا من هذا المنافق فقال: إن جبريل قال لي: أخرج فأخبر بنعم الله التي أنعم بها عليك وفضيلته التي فضلت بها، فبشرني أني أبعث إلى الأحمر والأسود، وأمرني أن أنذر الجن، وآتاني كتابه وأنا أمي، وغفر ذنبي ما تقدم وما تأخر، وذكر اسمي في الأذان، وأيدني بالملائكة، وآتاني النصر، وجعل الرعب أمامي، وآتاني الكوثر، وجعل حوضي من أعظم الحياض يوم القيامة، ووعدني المقام المحمود والناس مهطعون مقنعو رؤوسهم، وجعلني في أول زمرة تخرج من الناس، وأدخل في شفاعتي سبعين ألفاً من أمتي الجنة بغير حساب، وآتاني السلطان والملك، وجعلني في أعلى غرفة في الجنة في جنات النعيم، فليس فوقي أحد إلا الملائكة الذين يحملون العرش، وأحل لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلنا)، وهذا الحديث غريب جداً].
هذا الحديث غريب وضعيف ففيه ابن لهيعة وهو ضعيف، وفيه أيضاً انقطاع، وقوله: (حدثني من شهد عبادة) يدل على أن في آخره انقطاع، لكن هذه الأشياء التي جاءت في الحديث بعضها له شواهد من الآيات والأحاديث الصحيحة، وقوله: (إنه لا يقام لي وإنما يقام لله)، جاء في اللفظ الآخر: (إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل).


الصفحة التالية
Icon