معنى رتق السموات والأرض
قال سفيان الثوري عن أبيه عن عكرمة قال: سئل ابن عباس: الليل كان قبل أو النهار؟ فقال: أرأيتم السموات والأرض حين كانتا رتقاً هل كان بينهما إلا ظلمة؟ ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن حمزة حدثنا حاتم عن حمزة بن أبي محمد عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رجلاً أتاه يسأله عن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما، قال: اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ثم تعال فأخبرني بما قال لك، قال: فذهب إلى ابن عباس فسأله، فقال ابن عباس: كانت السموات رتقاً لا تمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت، فلما خلق للأرض أهلاً فتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات، فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره، فقال ابن عمر: الآن قد علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علماً، صدق هكذا كانت.
قال ابن عمر: قد كنت أقول ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن فالآن علمت أنه قد أوتى في القرآن علماً.
وقال عطية العوفي: كانت هذه رتقاً لا تمطر فأمطرت، وكانت هذه رتقاً لا تنبت فأنبتت.
وقال إسماعيل بن أبي خالد: سألت أبا صالح الحنفي عن قوله: ﴿أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [الأنبياء: ٣٠]، قال: كانت السماء واحدة ففتق منها سبع سماوات، وكانت الأرض واحدة ففتق منها سبع أرضين وهكذا قال مجاهد، وزاد: ولم تكن السماء والأرض متماستين.
وقال سعيد بن جبير: بل كانت السماء والأرض ملتزقتين، فلما رفع السماء وأبرز منها الأرض كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه.
وقال الحسن وقتادة: كانتا جميعاً، ففصل بينهما بهذا الهواء].
وبهذا يتبين أن معنى هذه الآية: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [الأنبياء: ٣٠] أنهما كانتا ملتصقتين، ثم فتق هذه من هذه، والقول الثاني لـ ابن عباس: في فتقهما بعد أن كانتا رتقاً: كانت السماء لا تمطر والأرض لا تنبت، ففتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات، وبهذا يتبين بطلان ما يدعي بعض علماء الهيئة الذين يفسرون هذه الآية ويقولون في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [الأنبياء: ٣٠]: أن الأرض كانت جزءاً من الشمس، وأنها كانت من فصيلة الشمس، ثم حصل شيء فانفصلت الأرض، ثم بردت فصارت أرضاً، فقالوا هذا معنى قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [الأنبياء: ٣٠].
وعموا عن الآية التي فيها: (أن السموات والأرض) وليس فيها أن الشمس والأرض كانتا رتقاً، ومع ذلك فهم في علومهم وفي النشرات يقولون: إن معنى الآية: أن الأرض جزء من الشمس ثم انفصلت وبردت، فصارت هذه أرض، وهذه شمس، وهذا من أبطل الباطل؛ لأن الآية صريحة في أن السموات والأرض وما فيها كانتا رتقاً، فيستدلون بهذه الآية ويفسرونها بأن الأرض كانت جزءاًً من الشمس فانفصلت، وقالوا هذا معنى قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [الأنبياء: ٣٠]، وهذا موجود الآن في المؤلفات، وفي العلوم، وفي النشرات، ويقرره بعض علماء العلوم وغيرهم.
إذاً فهم يقولون: إنها جزء من الشمس، لكن هذا يحتاج إلى الدليل، والآية لا تدل على قولهم بأن الأرض جزء من الشمس، ثم انفصلت وبردت، وصارت أرضاً، ويقولون: إن هذا هو معنى قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنبياء: ٣٠] والله تعالى يقول: ﴿أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ [الأنبياء: ٣٠]، وما قال: الشمس والأرض.
قال ابن جرير: ثم اختلف أهل التأويل في معنى وصف الله السموات والأرض بالرتق، وكيف كان الرتق؟ وبأي معنى فتق؟ فقال بعضهم: عنى بذلك أن السموات كانتا ملتصقتين ففصل الله بينهما بالهواء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أن السموات كانت مرتتقة طبقة فجعلها سبع سماوات، وكذلك الأرض كانت كذلك مرتتقة ففتقها فجعلها سبع أرضين.
وقال آخرون: بل عني بذلك أن السموات كانت رتقاً لا تمطر، والأرض كذلك رتقاً لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض والنبات.
وقال آخرون إنما قيل: ﴿فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [الأنبياء: ٣٠]، لأن الليل كان قبل النهار، ففتق النهار.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا﴾ [الأنبياء: ٣٠] من المطر والنبات، ففتقنا السماء بالغيث، والأرض بالنبات، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في ذلك لدلالة قوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: ٣٠] على ذلك، وأنه جل ثناؤه لم يعقب ذلك بوصف الماء بهذه الصفة إلا والذي تقدمه من ذكر أسبابه.
وقوله تعالى: ﴿كَانَتَا رَتْقًا﴾ [الأنبياء: ٣٠] فيه أقوال: قيل: كانت الأرض ملتصقة بالسماء ففتق هذه من هذه، وقيل: ((كَانَتَا رَتْقًا)) أي: كانت السماء والأرض وحدها ففتق السموات سبع سماوات، والأرض فتقها سبع أرضين، وقيل: ((كَانَتَا رَتْقًا)): كانتا ظلمة ثم فتق النهار من الليل، وقيل: ((كَانَتَا رَتْقًا)) كانت السماء لا تمطر، والأرض لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات.
فهذه أربعة أقوال، واختار القول الأخير لقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: ٣٠]، وليس صحيحاً ما يقوله بعض علماء الهيئة من أن الأرض قطعة من الشمس، وأنها فتقت وبرزت فصارت أرضاً.
وهذه كلها أقوال للسلف، وكلها تحتمل في الآية، وظاهر النص يقوي القول بأنهما كانتا ملتصقين ثم فتق هذه من هذه، وهو قول قوي، وكذلك قوله فتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات تحتمله الآية.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: أن معنى قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا﴾ [الأنبياء: ٣٠] من المطر والنبات، ففتقنا السماء بالغيث والأرض بالنبات، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، ورجح هذا ابن جرير بقوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: ٣٠]، قال: هذا دليل على أن المراد ففتقنا هذه بالمطر وهذه بالنبات، أي: كانتا ملتصقتين، ثم فتقهما الله وفصل هذه من هذه.


الصفحة التالية
Icon