والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صورة معينة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم، ولكن صور النصر شتى، وقد يلتبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة.. إبراهيم عليه السلام وهو يلقي في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها.. أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك -في منطق العقيدة - أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار، كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار، هذه صورة وتلك صورة وهما في الظاهر بعيد من بعيد.. فأما في الحقيقة قريب من قريب). (١)
(وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام كما نصرها باستشهاده، وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه، فتبقى حافزًا محركًا للأبناء والأحفاد، وربما كانت حافزًا محركًا لخطى التاريخ كله مدى أجيال). (٢)
(إن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة: ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة، لقد انتصر محمد - ﷺ - في حياته، لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض، فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعًا، من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة، فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته، ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة، ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعية تاريخية محدودة مشهودة، ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة، واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية وفق تقدير الله وترتيبه) (٣).
إن النصر والتمكين للمؤمنين له وجوه عدة، وصور متنوعة من أهمها؛ تبليغ الرسالة، وهزيمة الأعداء، وإقامة الدولة.

(١) انظر: الظلال (٥/٣٠٨٦).
(٢) المصدر نفسه، (٥/٣٠٨٦).
(٣) المصدر نفسه، (٥/٣٠٨٦).


الصفحة التالية
Icon