وباستثناء الخبر الأخير فإن نفس القصة مما كان متداولا في بيئة النبي - ﷺ - ومن جملة ذلك أن البئر الذي كشفه لها الملاك هو بئر زمزم أو ماء زمزم. وعلماء المسلمين بناء على ذلك يفسرون فاران بوادي مكة. ويوردون بعض الأدلة على صحة تفسيرهم. والنص القرآني يؤيد ذلك. وسفر التكوين وسائر الأسفار المتداولة الأخرى قد كتبت بعد موسى عليه السلام بمدة طويلة وطرأ عليها تحريفات وتشويهات متنوعة على ما سوف نشرحه في مناسبات أخرى. والواجب على المسلم أن يؤمن بما جاء في القرآن. وليس هناك أي دليل تاريخي يقيني أو أي دليل عقلي صحيح يناقضه. ونرجح إلى هذا أنه كان في أيدي اليهود أسفار ذكرت ما هو متطابق مع القرآن الكريم وضاعت كما ضاع كثير غيرها على ما سوف نشرحه كذلك في مناسبة آتية.
ومهما يكن من أمر فإن اسم قريش كان يطلق على القبيلة المسماة به قبل البعثة بمدة غير قصيرة على ما تؤيده الروايات وعلى ما يلمح في سورة قريش التي نحن في صددها.
ولقد كانت قريش قبل البعثة مؤلفة من عدة بطون، وكان في مكة من رؤساء بطون قريش البارزة حكومة أو شبه حكومة أو حكومة شيوخ، لكن بطن أو عشيرة مركز معين فيها ينتقل في زعماء العشيرة أو البطن جيلا بعد جيل، ومن هذه المراكز ما هو ديني مثل سدانة الكعبة وحجابتها وسقاية الحج ورفادته (ضيافته وقراه) ومنها ما هو سياسي مثل اللواء وقيادة الجيش والسفارة ومنها ما هو اجتماعي مثل الأنساب والأشناق أي تأمين الديات التي تطلب من بطون القبيلة، وكان بين أصحاب المراكز تضامن وتساند، وكان لهم دار ندوة قرب الكعبة يجتمعون فيها للمداولة في مختلف شؤون القبيلة، وقد كان هذا مع كونهم أهل حرم اللّه وسدنته وسقايته وعمارته مما جعل لهذه القبيلة خطورة واحتراما بين سائر العرب، وسيدنا محمد - ﷺ - من أحد بطون قريش البارزة وهو بطن هاشم. وكان عمه العباس صاحب مركز هذا البطن وكان يتولى سقاية الحج أي أمر توفير المياه للحجاج في موسم الحج.
والمتبادر أن تعبير «البيت» والإشارة القريبة إليه وتذكير قريش بما كان من أفضال اللّه عليهم متصل بتلك الخطورة وإدراكها، والتعبير يلهم أن قريشا كانوا يعتقدون أن الكعبة بيت اللّه، والآيات التي أوردناها تلهم أن العرب كانوا يشاركون قريشا في هذه العقيدة. ويحجون الكعبة وهي المرادف القرآني للبيت على ما جاء في الآية [٩٧] من سورة المائدة. ويحترمون حرمها وقدسيتها وأمنها على أساس هذه العقيدة. وكانت الحرمة والقدسية شاملة لجميع منطقة مكة على ما تفيده الآيات العديدة التي منها آية سورة النمل هذه : إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) ومنها آيات سورة القصص [٥٧] وسورة العنكبوت [٦٧] التي أوردناها آنفا. وعلى هذا فإن الكعبة وحجها كان نوعا ما مظهرا


الصفحة التالية
Icon