ضعف المسلمين وفقرهم وقلتهم يستخفون بهم ويهونون أمرهم، ويعدّون ذلك مغمزاً في الدين، ويأخذون القلة والضعف دليلاً على أن الدين ليس بحق، ولو كان حقاً لنشأ مع الغنى والقوة شأن السفهاء مع الحق في كل زمان أو مكان غلب فيه الجهل. وكان المنافقون إذا رأوا ما فيه المؤمنون من الشدة والبأساء يمنّون أنفسهم بغلبة إخوانهم القدماء من الجاحدين، وينتظرون السوء بالمسلمين لقلة عددهم وخلوّ أيديهم من المال. وكان الضعفاء من حديثي العهد بالإسلام من المؤمنين، تمُرُ بنفوسهم خواطر السوء عندما تشتد عليهم حلقات الضيق ؛ فأراد الله سبحانه أن يمحص من نفوس هؤلاء، ويبكّت الآخرين، ليؤكد له الوعد بأنه هو الفائز وأن متبعه هو الظافر، وإن عدوه هو الخائب الأبتر الذي يُمحى ذِكره ويعفى أثره. (١)
الخطاب في الآيات موجه إلى النبي - ﷺ - بسبيل البشرى والتطمين. فقد أعطاه اللّه الكوثر، فعليه أن يصلي لربه ويقرب إليه القرابين شكرا. ويتأكد أن عدوه ومبغضه هو الأبتر.
وقد روى المفسرون عَنْ قَتَادَةَ، " إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ قَالَ : هُوَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، قَالَ : أَنَا شَانِئُ مُحَمَّدًا، وَهُوَ أَبْتَرُ، لَيْسَ لَهُ عَقِبٌ، قَالَ اللَّهُ : إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ قَالَ قَتَادَةُ : الْأَبْتَرُ : الْحَقِيرُ الدَّقِيقُ الذَّلِيلُ " (٢)
ومضمون الآيات وروحها يلهمان صحة الرواية ويلهمان أن قول الكافر ونعته النبي - ﷺ - بالنعت المؤذي قد أثارا في نفسه أزمة، فأنزل اللّه السورة ترد عليه وتحمل البشرى والتطمين للنبي - ﷺ - بالأسلوب القوي الذي جاءت به حيث تقول له إن اللّه قد أعطاه الكوثر ومن أعطي الكوثر فلن يكون أبتر وأن مبغضه المقطوع من رحمة اللّه لهو الحري بهذا النعت وعليه أن يشكر اللّه بالصلاة وذبح القرابين تقربا إليه.
ومما روي أن النبي - ﷺ - كان مستغرقا في النوم فأفاق ضاحكا مستبشرا ثم قال نزلت عليّ هذه السورة. وهذه الرواية لم ترد في كتب الصحاح. وإن صحت ففيها صورة من صور الوحي القرآني. وهناك رواية تذكر أن السورة نزلت يوم الحديبية بسبيل التنويه بما تم للنبي - ﷺ - والمسلمين في ذلك اليوم من الفتح وبشرى وأمر بالصلاة ونحر الهدي في الحديبية. وكان إذ ذاك عيد الفطر، ولم ترد هذه الرواية في كتب الصحاح ولا في كتب السيرة القديمة التي روت تفاصيل يوم الحديبية. على أن جمهور الرواة والمفسرين على أن السورة مكية ومن السور المبكرة جدا في النزول.
وقد تعددت الأقوال في معنى الكوثر وفي المقصود من الصلاة والنحر. ففي صدد الكوثر روى البخاري والترمذي عن أنس أن النبي - ﷺ - قال :«لمّا عرج بي إلى السماء أتيت على نهر حافتاه

(١) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (١٣ / ٣٣١)
(٢) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (٣٥٤٧٣ ) صحيح مرسل


الصفحة التالية
Icon