الجملتين الأوليين الاختلاف التام في المعبود، ومفاد الجملتين الأخريين تمام الاختلاف في العبادة، فلا معبودنا واحد ولا عبادتنا واحدة ؛ لأن معبودي ذلك الإله الواحد المنزه عن الند والشفيع، المتعالي عن الظهور في شخص معين، الباسط فضلَه لكل من أخلص له، الآخذ قهره بناصية كل من نابذ المبلغين الصادقين عنه، والذي تعبدونه على خلاف ذلك. وعبادتي مخلصة لله وحده، وعبادتكم مشوبة بالشرك مصحوبة بالغفلة عن الله تعالى ؛ فلا تسمى على الحقيقة عبادة. فأين هي من عبادتي ؟ وقوله تعالى :﴿ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ تقرير لقوله تعالى :﴿ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ وقوله تعالى :﴿ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴾ كما أن قوله تعالى :﴿ وَلِيَ دِينِ ﴾ تقرير لقوله تعالى :﴿ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾ والمعنى أن دينكم الذي هو الإشراك مقصورٌ على الحصول لكم، لا يتجاوزه إلى الحصول لي أيضاً، كما تطمعون فيه ؛ فإن ذلك من المحالات، وأن ديني الذي هو التوحيد، مقصور على الحصول لي، لا يتجاوزه إلى الحصول لكم، فلا مشاركة بينه وبين ما أنتم عليه.
تنبيه :
قال ابن كثير استدل الإمام الشافعيّ وغيره بهذه الآية الكريمة ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ على أن الكفر كلُّه ملة واحدة فورّث اليهود من النصارى وبالعكس، إذا كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به ؛ لأن الأديان - ما عدا الإسلام - كلها كالشيء الواحد في البطلان. وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود، وبالعكس ؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله - ﷺ - < لا يتوارث أهل ملتين شتَّى > (١)
في الآيات أمر للنبي - ﷺ - بأن يعلن جاحدي رسالته بخطته بالنسبة لدينهم وعبادتهم. وبأن لهم إذا شاءوا أن يسيروا على نفس الخطة فهو يعبد غير ما يعبدون. ويخضع لغير ما يخضعون، ويتجه إلى غير ما يتجهون. وهو مسؤول عن تبعة موقفه، وهم مسؤولون عن تبعة موقفهم، ولكل من الفريقين دينه الذي ارتضاه لنفسه.
وقد روي أن السورة نزلت بمناسبة مراجعة بعض زعماء قريش للنبي - ﷺ - وطلبهم التشارك في عبادة الآلهة، فيصلي إلى آلهتهم ويصلون إلى إلهه، ويحترم آلهتهم ويحترمون إلهه إلى أن يتحقق الفريقان أيّ الدينين خير فيتبعونه «١».
والرواية محتملة الصحة على ما تلهمه روح الآيات، ويؤيدها آية سورة القلم : وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) التي مر تفسيرها قبل في سياق السورة المذكورة.