وَلَا رَنَّةٍ، وَلْيَبْدَأْ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ رِجَالُ أَهْلِ بَيْتِي وَنِسَاؤُهُمْ، ثُمَّ أَنْتُمْ، ثُمَّ اقْرَأُوا عَنِّي السَّلَامَ كَثِيرًا مَنْ غَابَ مِنْ أَصْحَابِي فَإِنِّي قَدْ سَلَّمْتُ عَلَى مَنْ تَابَعَنِي عَلَى دِينِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " قُلْنَا : فَمَنْ يُدْخِلُكَ فِي قَبْرِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ :" أَهْلِي مَعَ مَلَائِكَةٍ كَثِيرٍ يَرَوْنَكُمْ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ " (١) ومن ذلك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّهُ قَالَ يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ ثُمَّ بَكَى حَتَّى خَضَبَ دَمْعُهُ الْحَصْبَاءَ فَقَالَ اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ - ﷺ - وَجَعُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَقَالَ « ائْتُونِى بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا ». فَتَنَازَعُوا وَلاَ يَنْبَغِى عِنْدَ نَبِىٍّ تَنَازُعٌ فَقَالُوا هَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -. قَالَ « دَعُونِى فَالَّذِى أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِى إِلَيْهِ ». وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلاَثٍ « أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ ». وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ سَأَلْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ. فَقَالَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ. وَقَالَ يَعْقُوبُ وَالْعَرْجُ أَوَّلُ تِهَامَةَ (٢).. (٣)

(١) - الدُّعَاءُ لِلطَّبَرَانِيِّ (١١٢١ ) حسن
(٢) - صحيح البخارى (٣٠٥٣ )
قَوْله :( عَنْ اِبْن عَبَّاس يَوْم الْخَمِيس وَمَا يَوْم الْخَمِيس ) مَعْنَاهُ : تَفْخِيم أَمْره فِي الشِّدَّة وَالْمَكْرُوه فِيمَا يَعْتَقِدهُ اِبْن عَبَّاس، وَهُوَ اِمْتِنَاع الْكِتَاب، وَلِهَذَا قَالَ اِبْن عَبَّاس : الرَّزِيَّة كُلّ الرَّزِيَّة مَا حَال بَيْن رَسُول اللَّه - ﷺ - وَبَيْن أَنْ يَكْتُب هَذَا الْكِتَاب، هَذَا مُرَاد اِبْن عَبَّاس، وَإِنْ كَانَ الصَّوَاب تَرْك الْكِتَاب كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
قَوْله - ﷺ - :( دَعُونِي فَاَلَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْر ) مَعْنَاهُ دَعُونِي مِنْ النِّزَاع وَاللَّغَط الَّذِي شَرَعْتُمْ فِيهِ، فَاَلَّذِي أَنَا فِيهِ مِنْ مُرَاقَبَة اللَّه تَعَالَى وَالتَّأَهُّب لِلِقَائِهِ وَالْفِكْر فِي ذَلِكَ وَنَحْوه أَفْضَل مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ.
قَوْله - ﷺ - :( أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَة الْعَرَب ) قَالَ أَبُو عُبَيْد : قَالَ الْأَصْمَعِيّ : جَزِيرَة الْعَرَب مَا بَيْن أَقْصَى عَدَن الْيَمَن إِلَى رِيف الْعِرَاق فِي الطُّول، وَأَمَّا فِي الْعَرْض فَمِنْ جُدَّة وَمَا وَالَاهَا إِلَى أَطْرَاف الشَّام. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : هِيَ مَا بَيْن حَفَر أَبِي مُوسَى إِلَى أَقْصَى الْيَمَن فِي الطُّول، وَأَمَّا فِي الْعَرْض فَمَا بَيْن رَمْل يَرِين إِلَى مُنْقَطِع السَّمَاوَة. وَقَوْله :( حَفَر أَبِي مُوسَى ) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَفَتْح الْفَاء أَيْضًا، قَالُوا : وَسُمِّيَتْ جَزِيرَة لِإِحَاطَةِ الْبِحَار بِهَا مِنْ نَوَاحِيهَا وَانْقِطَاعهَا عَنْ الْمِيَاه الْعَظِيمَة، وَأَصْل الْجُزُر فِي اللُّغَة الْقِطَع، وَأُضِيفَتْ إِلَى الْعَرَب لِأَنَّهَا الْأَرْض الَّتِي كَانَتْ بِأَيْدِيهِمْ قَبْل الْإِسْلَام، وَدِيَارهمْ الَّتِي هِيَ أَوْطَانهمْ وَأَوْطَان أَسْلَافهمْ. وَحَكَى الْهَرَوِيُّ عَنْ مَالِك أَنَّ جَزِيرَة الْعَرَب هِيَ الْمَدِينَة، وَالصَّحِيح الْمَعْرُوف عَنْ مَالِك أَنَّهَا مَكَّة وَالْمَدِينَة وَالْيَمَامَة وَالْيَمَن، وَأَخَذَ بِهَذَا الْحَدِيث مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَغَيْرهمَا مِنْ الْعُلَمَاء، فَأَوْجَبُوا إِخْرَاج الْكُفَّار مِنْ جَزِيرَة الْعَرَب، وَقَالُوا : لَا يَجُوز تَمْكِينهمْ مِنْ سُكْنَاهَا. وَلَكِنَّ الشَّافِعِيّ خَصَّ هَذَا الْحُكْم بِبَعْضِ جَزِيرَة الْعَرَب وَهُوَ الْحِجَاز، وَهُوَ عِنْده مَكَّة وَالْمَدِينَة وَالْيَمَامَة وَأَعْمَالهَا دُون الْيَمَن وَغَيْره مِمَّا هُوَ مِنْ جَزِيرَة الْعَرَب بِدَلِيلٍ آخَر مَشْهُور فِي كُتُبه وَكُتُب أَصْحَابه. قَالَ الْعُلَمَاء : وَلَا يُمْنَع الْكُفَّار مِنْ التَّرَدُّد مُسَافِرِينَ فِي الْحِجَاز، وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْإِقَامَة فِيهِ أَكْثَر مِنْ ثَلَاثَة أَيَّام. قَالَ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ : إِلَّا مَكَّة وَحَرَمهَا فَلَا يَجُوز تَمْكِين كَافِر مِنْ دُخُوله بِحَالٍ، فَإِنْ دَخَلَهُ فِي خُفْيَة وَجَبَ إِخْرَاجه، فَإِنْ مَاتَ وَدُفِنَ فِيهِ نُبِشَ وَأُخْرِجَ مَا لَمْ يَتَغَيَّر. هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَجَمَاهِير الْفُقَهَاء.
وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَة دُخُولهمْ الْحَرَم، وَحُجَّة الْجَمَاهِير قَوْل اللَّه تَعَالَى ﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِد الْحَرَام بَعْد عَامهمْ هَذَا ﴾ وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَقَوْله - ﷺ - ( وَأَجِيزُوا الْوَفْد بِنَحْوِ مَا كُنْت أُجِيزهُمْ ) قَالَ الْعُلَمَاء : هَذَا أَمْر مِنْهُ - ﷺ - بِإِجَازَةِ الْوُفُود وَضِيَافَتهمْ وَإِكْرَامهمْ تَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ، وَتَرْغِيبًا لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُؤَلَّفَة قُلُوبهمْ وَنَحْوهمْ وَإِعَانَة عَلَى سَفَرهمْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : قَالَ الْعُلَمَاء سَوَاء كَانَ الْوَفْد مُسْلِمِينَ أَوْ كُفَّارًا ؛ لِأَنَّ الْكَافِر إِنَّمَا يَفِد غَالِبًا فِيمَا يَتَعَلَّق بِمَصَالِحِنَا وَمَصَالِحهمْ.
قَوْله :( وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثَة، أَوْ قَالَهَا فَأُنْسِيتهَا ) السَّاكِت اِبْن عَبَّاس، وَالنَّاسِي سَعِيد بْنُ جُبَيْر، قَالَ الْمُهَلَّب : الثَّالِثَة هِيَ تَجْهِيز جَيْش أُسَامَة - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ -، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : وَيَحْتَمِل أَنَّهَا قَوْله - ﷺ - :" لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَد "، فَقَدْ ذَكَرَ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ مَعْنَاهُ مَعَ إِجْلَاء الْيَهُود مِنْ حَدِيث عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَوَائِد سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ، مِنْهَا : جَوَاز كِتَابَة الْعِلْم، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذِهِ الْمَسْأَلَة مَرَّات، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ جَاءَ فِيهَا حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ ؛ فَإِنَّ السَّلَف اِخْتَلَفُوا فِيهَا ثُمَّ أَجْمَعَ مَنْ بَعْدهمْ عَلَى جَوَازهَا، وَبَيَّنَّا تَأْوِيل حَدِيث الْمَنْع.
وَمِنْهَا : جَوَاز اِسْتِعْمَال الْمَجَاز لِقَوْلِهِ - ﷺ - :( أَكْتُب لَكُمْ ) أَيْ آمُر بِالْكِتَابَةِ، وَمِنْهَا : أَنَّ الْأَمْرَاض وَنَحْوهَا لَا تُنَافِي النُّبُوَّة، وَلَا تَدُلّ عَلَى سُوء الْحَال. شرح النووي على مسلم - (٦ / ٢٦)
(٣) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (٩ / ٥٧٥)


الصفحة التالية
Icon