وفي الطريق إلى إشعار القلب البشري حقيقة الآخرة الهائلة الضخمة العظيمة الكبيرة يوقع السياق إيقاعات منوعة على أوتار القلب، ويلمسه لمسات شتى حول تلك الحقيقة الكبرى. وهي إيقاعات ولمسات تمت إليها بصلة. فتلك الحقيقة تمهد لها في الحس وتهيئه لاستقبالها في يقظة وفي حساسية.. يمهد لها بمطلع غامض الكنه يثير بغموضه شيئاً من الحدس والرهبة والتوجس. يسوقه في إيقاع موسيقي راجف لاهث، كأنما تنقطع به الأنفاس من الذعر والارتجاف والمفاجأة والانبهار :﴿ والنازعات غرقاً. والناشطات نشطاً. والسابحات سبحاً. فالسابقات سبقاً. فالمدبرات أمراً ﴾..
وعقب هذا المطلع الغامض الراجف الواجف يجيء المشهد الأول من مشاهد ذلك اليوم. ظله من ظل ذلك المطلع وطابعه من طابعه؛ كأنما المطلع إطار له وغلاف يدل عليه :﴿ يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة. قلوب يومئذ واجفة. أبصارها خاشعة. يقولون : أإنَّا لمردودون في الحافرة؟ أإذا كنا عظاما نخرة؟ قالوا : تلك إذا كرة خاسرة! فإنما هي زجرة واحدة. فإذا هم بالساهرة ﴾..
ومن هنالك.. من هذا الجو الراجف الواجف المبهور المذعور.. يأخذ في عرض مصرع من مصارع المكذبين العتاة في حلقة من قصة موسى مع فرعون. فيهدأ الإيقاع الموسيقي ويسترخي شيئاً ما، ليناسب جو الحكاية والعرض :﴿ هل أتاك حديث موسى. إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى : اذهب إلى فرعون إنه طغى. فقل : هل لك إلى أن تزكَّى؟ وأهديك إلى ربك فتخشى؟ فأراه الآية الكبرى، فكذب وعصى، ثم أدبر يسعى، فحشر فنادى، فقال : أنا ربكم الأعلى. فأخذه الله نكال الآخرة والأولى. إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ﴾.. وبهذا يلتقي ويمهد لتلك الحقيقة الكبرى.
ثم ينتقل من ساحة التاريخ إلى كتاب الكون المفتوح، ومشاهد الكون الهائلة، الشاهدة بالقوة والتدبير والتقدير للألوهية المنشئة للكون، المهيمنة على مصائره، في الدنيا والآخرة. فيعرضها في تعبيرات قوية الأسر، قوية الإيقاع، تتسق مع مطلع السورة وإيقاعها العام :﴿ أأنتم أشد خلقاً أم السمآء؟ بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها؛ والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها، متاعاً لكم ولأنعامكم ﴾..
وهنا بعد هذه التمهيدات المقربة وهذه اللمسات الموحية يجيء مشهد الطامة الكبرى، وما يصاحبها من جزاء على ما كان في الحياة الدنيا. جزاء يتحقق هو الآخر في مشاهد تتناسق صورها وظلالها مع الطامة الكبرى :﴿ فإذا جآءت الطآمة الكبرى، يوم يتذكر الإنسان ما سعى، وبُرِّزت الجحيم لمن يرى! فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى.
وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ﴾..