الذي وصفها القرآن الكريم به، فخرجت ـ كما يقول الرواة ـ فى جنون مسعور، تستعدى قريشا على النبي الذي هجاها ـ كما تزعم ـ هذا الهجاء الفاضح، وعرضها عارية على الملأ! وحق للمرأة أن تفزع وأن نجنّ، فلقد كانت هذه الصورة التي رسمها القرآن لها، وعرضها هذا العرض المذل المهين لها، حديث قريش ـ نسائها ورجالها ـ ومادة تندرها، ومعابثها، زمنا طويلا.. وأكثر من هذا..
فإن النظم الذي جاءت عليه السورة الكريمة، قد جاء فى صورة تغرى بأن تكون أغنية يتغنى بها الولدان، ويحدو بها الركبان، ويتناشد بها الرعاة..
إنها تصلح أن تكون ـ فى نظمها ـ غناء، أو نشيدا، أو حداء.. ولا نحسب إلا أنها كانت، بعد أيام قليلة من نزولها، نشيدا مرددا فى طرقات مكة، على ألسنة الصبيان، وفى البوادي على أفواه الرعاة، والحداة، وأنها قد أخذت صورا وأشكالا من الأوزان، والأنغام، التي تولدت من نظمها العجيب المعجز..
وهكذا، يمكن أن تتوالد منها الصور، وتتعدد! وفى الإخبار عن أبى لهب وامرأته بأنهم من أهل النار، وفى مواجهتهم بهذا الخبر، ثم موتهم بعد هذا على الكفر ـ فى هذا إعجاز من إعجاز القرآن، الذي ساق أبا لهب وامرأته إلى النار وهما حيان يرزقان.. ولو أن أبا لهب آمن باللّه ـ ولو حتى عن نفاق ـ لأقام حجة قاطعة على كذب النبي، وافتراء ما جاء به، لأن النار التي توعدها اللّه إنما هى لكفره، فلو أعلن الإيمان لما كان لهذا الوعيد حجة عليه، بل كان حجة على القرآن بأنه مفترى. ولكن أنّى يكون هذا، وقد قضى اللّه بعذابه فى جهنم، ونزل القرآن بالخبر القاطع بهذا ؟
إنها كلمة واحدة كانت تخرج من فم أبى لهب أو امرأته، بإعلان إسلامهما، فيقضى بها على محمد ودعوته.. وهذه معجزة متحدية من معجزات القرآن، الذي أمسك لسان الرجل والمرأة عن أن ينطقا بهذه الكلمة، بكلمة الإسلام، فى أوضح صورة، وأكملها وأصرحها، كما جاءت بها سورة « الإخلاص ».
وتلك شهادة قائمة على الدهر، بأن هذا القرآن كلام اللّه، وأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. (١)
﴿ تبت يدا أبي لهب وتب ﴾.. والتباب الهلاك والبوار والقطع. ﴿ وتبت ﴾ الأولى دعاء. و ﴿ تب ﴾ الثانية تقرير لوقوع هذا الدعاء. ففي آية قصيرة واحدة في مطلع السورة تصدر الدعوة وتتحقق، وتنتهي المعركة ويسدل الستار!

(١) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (١٥ / ١٧٠٣)


الصفحة التالية
Icon