﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ﴾ [ الأنعام : ١١٢ ]، وإيحاؤهم هو وسوستهم.
قال ابن تيمية : فإن قيل : فإن كان أصل الشر كلّه من الوسواس الخناس، فلا حاجة إلى ذكر الاستعاذة من وسواس الناس، فإنه تابع لوسواس الجن ؟ قيل : بل الوسوسة نوعان : نوع من الجن، ونوع من نفوس الإنس. كما قال :
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ﴾ [ ق : ١٦ ]، فالشر من الجهتين جميعاً. والإنس لهم شياطين كما للجن شياطين.
وقال أيضاً : الذي يوسوس في صدور الناس نفسه لنفسه، وشياطين الجن وشياطين الإنس، فليس من شرط الموسوس أن يكون مستتراً عن البصر، بل قد يشاهد.
لطائف :
الأولى : قال ابن تيمية : إنما خص الناس بالذكر ؛ لأنهم المستعيذون، فيستعيذون بربهم الذي يصونهم، وبملكهم الذي أمرهم ونهاهم وبإلههم الذي يعبدونه من شر الذي يحلُّ بينهم وبين عبادته، ويستعيذون أيضاً من شر الوسواس الذي يحصل في نفوس منهم ومن الجِنَّة ؛ فإنه أصل الشر الذي يصدر منهم والذي يرد عليهم.
وقال الناصر : في التخصيص جرى على عادة الاستعطاف. فإنه معهُ أتمّ الثانية : تكرر المضاف إليه وهو : الناس باللفظ الظاهر ؛ لمزيد الكشف والتقرير والتشريف بالإضافة، فإن الإظهار أنسب بالإيضاح المسوق لهُ عطف البيان، وأدل على شرف الْإِنْسَاْن. وقيل : لا تكرار لجواز أن يراد بالعام بعض أفرادهُ ؛ فـ : الناس الأول بمعنى الأجنة والأطفال المحتاجين للتربية، والثاني الكهول والشبان، لأنهم المحتاجون لمن يسوسهم، والثالث الشيوخ لأنهم المتعبدون المتوجهون لله.
قال الشهاب : وفيه تأمّل.
الثالثة : في تعداد الصفات العليا هنا إشارة إلى عِظَم المستعاذ منه، وأن الآفة النفسانية أعظم من المضار البدنية، حيث لم يكرر ذلك المستعاذ به في السورة قبلُ، وكررهُ هنا إظهاراً للاهتمام في هذه دون تلك. نقله الشهاب.
الرابعة : قال ابن تيمية : الوسواس من جنس الحديث والكلام ؛ ولهذا قال المفسرون في قوله :﴿ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ﴾ قالوا : ما تحدث به نفسه. وقد قال - ﷺ - :< إن الله تجاوز لأمتي ما تحدِّث به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به >، وهو نوعان : خبر وإنشاء، فالخبر إما عن ماض وإما عن مستقبل، فالماضي يذكره والمستقبل يحدثه بأن يفعل هو أموراً، أو أن أموراً ستكون بقدر الله أو فعل غيره ؛ فهذه الأمانيّ والمواعيد الكاذبة، والإنشاء أمر ونهي وإباحة.