والاستفهام، يراد به الخبر.. أي لم يأتك حديث موسى.. فاستمع إليه إذن! وقد جاء الخبر فى صيغة الاستفهام، لما يؤذن به الاستفهام هنا من عظيم اللطف، وكريم الإحسان من اللّه سبحانه إلى النبىّ الكريم، حتى ليخاطبه مولاه خطاب الحبيب إلى الحبيب، فى رفق، ومودّة، ليقول له :« هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى » ؟ أي أعلمت حديث موسى ؟ وأ تريد أن تعلمه ؟ ألا، فاستمع!! وفى هذا ما يشير إلى أن ذلك أول ما تلقاه النبىّ من آيات اللّه، من نبأ موسى وفرعون..
وقوله تعالى :« إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً » أي الحديث الذي نريد أن نبلغك إيّاه من أمر موسى، هو ما كان من نداء اللّه سبحانه وتعالى، إياه، وهو بالواد المقدس « طوى »..
و« الوادي المقدس »، هو واد فى أسفل جبل سيناء، من الجانب الأيمن منه، فى الطريق المتجه من الشام إلى مصر.. كما يقول سبحانه :« وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا » (٥٢ : مريم) و« طوى » اسم لهذا الوادي.
قوله تعالى :« اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى » هو بيان لما نودى به موسى من ربه، أي ناداه سبحانه ب قوله تعالى :« اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ » وقوله تعالى :« إنه طغى » هو بيان لسبب الدعوة بالذهاب إليه.. إنه طغى، وتجاوز الحدود فى بغيه وعدوانه، وفى كفره وضلاله.
قوله تعالى :« فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى ». وتلك هى الرسالة التي يحملها موسى من ربه إلى فرعون..
وقوله تعالى :« هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى » أي هل تودّ أن تتزكى، ويتطهر ؟
وفى هذا الأسلوب الاستفهامى، ترفق وتلطف فى الدعوة إلى اللّه، وفى مواجهة عناد المعاندين وكبر المتكبرين باللطف واللين..
إن الحكمة تقضى فى مثل هذا المقام، أن يستميل الداعي إلى الحقّ من يدعوه إليه، وأن يترفق فى الدخول إلى قلبه، حتى يجد منه أذنا صاغية، وقلبا واعيا، إذا كان فيه بقية من عقل، أو يقظة من ضمير.. ولو جاء الداعي إلى من يدعوه إلى العدول عن الطريق الذي هو عليه ـ لو جاءه آمرا، أو زاجرا، أو فاضحا لحاله المتلبس بها، لما وجد منه إلا إعراضا وازورارا، وتكرّها لسماع ما يلقى إليه من حديث، فكيف إذا كان هذا المدعوّ جبارا عنيدا كفرعون ؟
ولهذا جاء قوله تعالى :« فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى » راسما لموسى هذا المنهج الحكيم لدعوة هذا الجبار العنيد، كما جاء ذلك فى قوله تعالى :« اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى » (٤٣ ـ ٤٤ : طه). وفى هذا الأسلوب القرآنى الخطة المثلى، والمثل الكامل القويم، لأصحاب الدعوات، من القادة، والزعماء، والمصلحين.. إنهم لن يبلغوا بدعوتهم مواطن الإقناع، ولن يحصلوا منها على ثمر طيب، إلا إذا جعلوا الرفق واللين