والماء الذي يخرج من الأرض، هو من هذا الماء الملح، الذي سخرته القدرة الإلهية، ليكون بخارا، فسحابا، فمطرا، فماء عذبا تفيض به الأنهار، وتتفجر منه العيون.. وكما أخرج اللّه سبحانه الماء والمرعى من الأرض، أرسى فيها الجبال لتمسكها وتحفظ توازنها..
وقوله تعالى :« مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ » هو مفعول له، أي دحا اللّه الأرض وأخرج منها الماء والمرعى، متاعا لكم ولأنعامكم وزادا تتزودون به لحياتكم وحياة أنعامكم..
وفى جعل المرعى متاعا للناس والأنعام ـ إشارة إلى أن الناس والأنعام سواء فى هذا الرزق الذي أخرجه اللّه سبحانه وتعالى من الأرض، وأن العقل الذي امتاز به الناس على سائر الحيوان، ليس هو الذي يفيض عليهم هذا الرزق، وإنما هو فضل من فضل اللّه، ورزق من رزقه! إنهم يرزقون من فضل اللّه كما ترزق الأنعام.. سواء بسواء.. (١)
ومن هذه الجولة في مصارع الطغاة المعتدين بقوتهم، يعود إلى المشركين المعتزين بقوتهم كذلك. فيردهم إلى شيء من مظاهر القوة الكبرى، في هذا الكون الذي لا تبلغ قوتهم بالقياس إليه شيئاً :﴿ أأنتم أشد خلقاً أم السماء؟ بناها. رفع سمكها فسواها. وأغطش ليلها وأخرج ضحاها. والأرض بعد ذلك دحاها. أخرج منها ماءها ومرعاها. والجبال أرساها. متاعاً لكم ولأنعامكم ﴾..
وهو استفهام لا يحتمل إلا إجابة واحدة بالتسليم الذي لا يقبل الجدل :﴿ أأنتم أشد خلقاً أم السماء؟ ﴾.. السماء! بلا جدال ولا كلام! فما الذي يغركم من قوتكم والسماء أشد خلقاً منكم، والذي خلقها أشد منها؟ هذا جانب من إيحاء السؤال.
وهناك جانب آخر. فما الذي تستصعبونه من أمر بعثكم؟ وهو خلق السماء وهي أشد من خلقكم؛ وبعثكم هو إعادة لخلقكم، والذي بنى السماء وهي أشد، قادر على إعادتكم وهي أيسر!
هذه السماء الأشد خلقاً بلا مراء.. ﴿ بناها ﴾.. والبناء يوحي بالقوة والتماسك، والسماء كذلك. متماسكة. لا تختل ولا تتناثر نجومها وكواكبها. ولا تخرج من أفلاكها ومداراتها، ولا تتهاوى ولا تنهار. فهي بناء ثابت وطيد متماسك الأجزاء.
﴿ رفع سمكها فسواها ﴾.. وسمك كل شيء قامته وارتفاعه. والسماء مرفوعه في تناسق وتماسك. وهذه هي التسوية :﴿ فسواها ﴾.. والنظرة المجردة والملاحظة العادية تشهد بهذا التناسق المطلق. والمعرفة بحقيقة القوانين التي تمسك بهذه الخلائق الهائلة وتنسق بين حركاتها وآثارها وتأثراتها، توسع من معنى هذا التعبير، وتزيد في مساحة هذه الحقيقة الهائلة، التي لم يدرك الناس بعلومهم إلا أطرافاً منها، وقفوا تجاهها مبهورين، تغمرهم الدهشة، وتأخذهم

(١) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (١٥ / ١٤٤١)


الصفحة التالية
Icon