أو جميعها نواحيَ صلاح ونفع قد تخفى لقلة اطرادها، ولا ينبغي ترك استقرائها عند الاشتغال بغيرها ولو ظنه الأهم، وأنّ ليس الإِصلاح بسلوك طريقة واحدة للتدبير بأخذ قواعد كلية منضبطة تشبهُ قواعد العلوم يطبقها في الحوادث ويغضي عما يعارضها بأن يسرع إلى ترجيح القَويّ على الضعيف مِما فيه صفة الصلاح، بل شأن مقوّم الأخلاق أن يكون بمثابة الطبيب بالنسبة إلى الطبائع والأمزجة فلا يجعل لجميع الأمزجة علاجاً واحداً بل الأمر يختلف باختلاف الناس. وهذا غور عميق يخاض إليه من ساحل القاعدة الأصولية في باب الاجتهاد القائلة : إن المجتهد إذا لاح له دليل :( يبحث عن المعارض ) والقاعدة القائلة :( إن لله تعالى حكماً قبل الاجتهاد نصب عليه أمارة وكلف المجتهد بإصابته فإن أصابه فله أجران وإن أخطأه فله أجر واحد ).
فإذا كان ذلك مقام المجتهدين من أهل العلم لأنه مستطاعهم فإن غوْره هو اللائق بمرتبة أفضل الرسل ( - ﷺ - ) فيما لم يرد له فيه وحي، فبحثُه عن الحكم أوسع مدىً من مدى أبحاث عموم المجتهدين، وتنقيبه على المعارض أعمق غَوراً من تناوشهم، لئلا يفوت سيدَ المجتهدين ما فيه من صلاح ولو ضعيفاً، ما لم يكن إعماله يُبطل ما في غيره من صلاح أقوى لأن اجتهاد الرسول ( - ﷺ - ) في مواضع اجتهاده قائم مقام الوحي فيما لم يُوحَ إليه فيه.
فالتزكية الحق هي المِحْور الذي يدور عليه حال ابن أم مكتوم وحال المشرك من حيث إنها مرغوبة للأول ومزهود فيها من الثاني، وهي مرمى اجتهاد رسول الله ( - ﷺ - ) لتحصيلها للثاني والأمن على قرارها للأول بإقباله على الذي يتجافى عن دعوته، وإعراضه عن الذي يعلم من حاله أنه متزكَ بالإِيمان.
وفي حاليهما حالان آخران سرُّهما من أسرار الحكمة التي لقنها الله نبيئه ( - ﷺ - ) وهو يخفى في معتاد نظر النظار فأنبأه الله به ليزيل عنه ستار ظاهر حاليهما، فإن ظاهر حاليهما قاض بصرف الاهتمام إلى أحدهما وهو المشرك لدعوته إلى الإِيمان حين لاح من لِين نفْسه لسماع القرآن ما أطْمَعَ النبي ( - ﷺ - ) بأنه قد اقتربَ من الإِيمان فمحَّض توجيه كلامه إليه لأن هدي الناس إلى الإِيمان أعظم غرض بُعث النبي ( - ﷺ - ) لأجله، فالاشتغال به يَبْدُو أهمّ وأرجحَ من الاشتغال بمن هو مؤمن خالص، وذلك ما فعله النبي ( - ﷺ - )
غير أن وراء ذلك الظاهر حالاً آخر كامناً عَلِمه الله تعالى العالم بالخفيات ولم يوححِ لرسوله ( - ﷺ - ) التنقيب عليه وهو حال مؤمن هو مظنة الازدياد من الخير، وحال كافر مصمم على الكفر تؤذن سوابقه بعناده وأنه لا يفيد فيه البرهان شيئاً. وإن عميق التوسم في كلا الحالين قد يكشف للنبيء ( - ﷺ - ) بإعانة الله رجحانَ حال المؤمن المزداد من الرشد والهدي على حال الكافر الذي لا يغُر ما أظهره من اللين مصانعةً أو حياءً من المكابرة، فإن كان في إيمان الكافر نفع عظيم


الصفحة التالية
Icon