وفي قوله تعالى :( وما يدريك لعله يزكى ( ( عبس : ٣ ) إيماء إلى عذر النبي ( - ﷺ - ) في تأخيره إرشاد ابن أم مكتوم لما علمت من أنه يستعمل في التنبيه على أمر مغفول عنه، والمعنى : لعله يزّكى تزكية عظيمة كانت نفسه متهيئة لها ساعتئذ إذ جاء مسترشداً حريصاً، وهذه حالة خفية.
وكذلك عذره في الحرص على إرشاد المشرك بقوله :( وما عليك ألا يزكى ( ( عبس : ٧ ) إذ كان النبي ( - ﷺ - ) يخشى تبعة من فوات إيمان المشرك بسبب قطع المحاورة معه والإِقبال على استجابة المؤمن المسترشد.
فإن قال قائل : فلماذا لم يُعلِم الله رسوله ( - ﷺ - ) من وقت حضور ابن أم مكتوم بما تضمنه هذا التعليم الذي ذكرتم.
قلنا : لأن العلم الذي يحصل عن تبيُّن غفلة، أو إشعارٍ بخفاء يكون أرسخ في النفس من العلم المسوق عن غير تعطش ولأن وقوع ذلك بعد حصول سببه أشهر بين المسلمين وليحصل للنبيء ( - ﷺ - ) مزية كِلا المقامين : مقام الاجتهاد، ومقام الإِفادة.
وحكمة ذلك كله أن يُعلم الله رسوله ( - ﷺ - ) بهذا المهيع من عليِّ الاجتهاد لتكون نفسه غير غافلة عن مثله وليتأسى به علماء أمته وحكامها وولاة أمورها.
ونظير هذا ما ضَربه الله لموسى عليه السلام من المثَل في ملاقاة الخضر، وما جرى من المحاورة بينهما، وقول الخضر لموسى :( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً ( ( الكهف : ٦٨ ) ثم قوله له :( ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً ( ( الكهف : ٨٢ ). وقد سبق مثله في الشرائع السابقة كقوله في قصة نوح :( يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ( ( هود : ٤٦ ) وقوله لإبراهيم :( لا ينال عهدي الظالمين ( ( البقرة : ١٢٤ ).
هذا ما لاح لي في تفسير هذه الآيات تأصيلاً وتفصيلاً، وهو بناء على أساس ما سبق إليه المفسرون من جعلهم مناط العتاب مجموع ما في القصة من الإِعراض عن إرشاد ابن أم مكتوم، ومن العُبوس له، والتولّي عنه، ومن التصدّي القوي لدعوة المشرك والإِقبال عليه.
والأظهر عندي أن مناط العتاب الذي تؤتيه لهجة الآية والذي رُوي عن النبي ( - ﷺ - ) ثبوتُه من كثرة ما يقول لابن أم مكتوم :( مرحباً بمن عاتبني ربي لأجله ) إنما هو عتاب على العُبوس والتولّي، لا على ما حفّ بذلك من المبادرة بدعوة، وتأخير إرشاد، لأن ما سلكه النبي ( - ﷺ - ) في هذه الحادثة من سبيل الإِرشاد لا يستدعي عتاباً إذ ما سلك إلا سبيل الاجتهاد القويم لأن المقام الذي أقيمت فيه هذه الحادثة تقاضاهُ إرشادَاننِ لا محيص من تقديم أحدهما على الآخر، هما : إرشاد كافر إلى الإِسلام عساه أن يسلم، وإرشاد مؤمن إلى شُعَب الإِسلام عساه أن يزداد تزكية.