وأجاب الإمام ابن حزم في " الفِصَل " بقوله : وأما قوله :﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى ﴾ الآيات، فإنه كان عليه السلام قد جلس إليه عظيم من عظماء قريش، ورجا إسلامه. وعلم عليه السلام أنه لو أسلم لأسلم بإسلامه ناسٌ كثير وأظهرَ الدين، وعلم أن هذا الأعمى الذي يسأله عن أشياء من أمور الدين لا يفوته، وهو حاضر معه ؛ فاشتغل عنه - عليه السلام- بما خاف فوته من عظيم الخير عما لا يخاف فوته، وهذا غاية النظر في الدِّين والاجتهاد في نُصرة القرآن في ظاهر الأمر ونهاية التقرب إلى الله، الذي لو فعله اليوم منا فاعل لأُجر ؛ فعاتبه الله عز وجل على ذلك إذ كان الأولى عند الله تعالى أن يُقبل على ذلك الأعمى الفاضل البَر التقي، وهذا نفس ما قلناه. انتهى.
وقال القاشاني : كان - ﷺ - في حِجر تربية ربِّه، لكونه حبيباً، فكما ظهرت نفسه بصفة حجبت عنه نور الحق، عوتب وأدب كما قال :< أدَّبني ربِّي فأحسَن تأديبي > إلى أن تخلق بأخلاقه تعالى. انتهى. (١)
إن هذا التوجيه الذي نزل بشأن هذا الحادث هو أمر عظيم جداً. أعظم بكثير مما يبدو لأول وهلة. إنه معجزة، هو والحقيقة التي أراد إقرارها في الأرض، والآثار التي ترتبت على إقرارها بالفعل في حياة البشرية. ولعلها هي معجزة الإسلام الأولى، ومعجزته الكبرى كذلك. ولكن هذا التوجيه يرد هكذا تعقيباً على حادث فردي على طريقة القرآن الإلهية في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة فرصة لتقرير الحقيقة المطلقة والمنهج المطرد.
وإلا فإن الحقيقة التي استهدف هذا التوجيه تقريرها هنا والآثار الواقعية التي ترتبت بالفعل على تقريرها في حياة الأمة المسلمة، هي الإسلام في صميمه. وهي الحقيقة التي أراد الإسلام وكل رسالة سماوية قبله غرسها في الأرض.
هذه الحقيقة ليست هي مجرد : كيف يعامل فرد من الناس؟ أو كيف يعامل صنف من الناس؟ كما هو المعنى القريب للحادث وللتعقيب. إنما هي أبعد من هذا جداً، وأعظم من هذا جداً. إنها : كيف يزن الناس كل أمور الحياة؟ ومن أين يستمدون القيم التي يزنون بها ويقدرون؟
والحقيقة التي استهدف هذا التوجيه إقرارها هي : أن يستمد الناس في الأرض قيمهم وموازينهم من اعتبارات سماوية إلهية بحتة، آتية لهم من السماء، غير مقيدة بملابسات أرضهم، ولا بموضوعات حياتهم، ولا نابعة من تصوراتهم المقيدة بهذه المواضعات وتلك الملابسات.
وهو أمر عظيم جداً، كما أنه أمر عسير جداً. عسير أن يعيش الناس في الأرض بقيم وموازين آتية من السماء. مطلقة من اعتبارات الأرض. متحررة من ضغط هذه الاعتبارات.

(١) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (١٣ / ١٣٨)


الصفحة التالية
Icon