تعارف عليه الناس، وكل ما ينبثق من علاقات الأرض من قيم وتصورات وموازين واعتبارات، لتستمد القيم من السماء وحدها وتزنها بميزان السماء وحده!
ويجيء الرجل الأعمى الفقير.. ابن أم مكتوم.. إلى رسول الله - ﷺ - وهو مشغول بأمر النفر من سادة قريش. عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبي جهل عمرو بن هشام، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، ومعهم العباس بن عبد المطلب.. والرسول - ﷺ - يدعوهم إلى الإسلام؛ ويرجو بإسلامهم خيراً للإسلام في عسرته وشدته التي كان فيها بمكة؛ وهؤلاء النفر يقفون في طريقه بمالهم وجاههم وقوتهم؛ ويصدون الناس عنه، ويكيدون له كيداً شديداً حتى ليجمدوه في مكة تجميداً ظاهراً. بينما يقف الآخرون خارج مكة، لا يقبلون على الدعوة التي يقف لها أقرب الناس إلى صاحبها، وأشدهم عصبية له، في بيئة جاهلية قبلية، تجعل لموقف القبيلة كل قيمة وكل اعتبار.
يجيء هذا الرجل الأعمى الفقير إلى رسول الله - ﷺ - وهو مشغول بأمر هؤلاء النفر. لا لنفسه ولا لمصلحته، ولكن للإسلام ولمصلحة الإسلام. فلو أسلم هؤلاء لانزاحت العقبات العنيفة والأشواك الحادة من طريق الدعوة في مكة؛ ولانساح بعد ذلك الإسلام فيما حولها، بعد إسلام هؤلاء الصناديد الكبار..
يجيء هذا الرجل، فيقول لرسول الله - ﷺ - يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله.. ويكرر هذا وهو يعلم تشاغل الرسول - ﷺ - بما هو فيه من الأمر. فيكره الرسول قطعه لكلامه واهتمامه. وتظهر الكراهية في وجهه الذي لا يراه الرجل فيعبس ويعرض. يعرض عن الرجل المفرد الفقير الذي يعطله عن الأمر الخطير. الأمر الذي يرجو من ورائه لدعوته ولدينه الشيء الكثير؛ والذي تدفعه إليه رغبته في نصرة دينة، وإخلاصه لأمر دعوته، وحبه لمصلحة الإسلام، وحرصه على انتشاره!
وهنا تتدخل السماء. تتدخل لتقول كلمة الفصل في هذا الأمر؛ ولتضع معالم الطريق كله، ولتقرر الميزان الذي توزن فيه القيم بغض النظر عن جميع الملابسات والاعتبارات. بما في ذلك اعتبار مصلحة الدعوة كما يراها البشر. بل كما يراها سيد البشر - ﷺ -.
وهنا يجيء العتاب من الله العلي الأعلى لنبيه الكريم، صاحب الخلق العظيم، في أسلوب عنيف شديد. وللمرة الوحيدة في القرآن كله يقال للرسول الحبيب القريب :﴿ كلا! ﴾ وهي كلمة ردع وزجر في الخطاب! ذلك أنه الأمر العظيم الذي يقوم عليه هذا الدين!
والأسلوب الذي تولى به القرآن هذا العتاب الإلهي أسلوب فريد، لا تمكن ترجمته في لغة الكتابة البشرية. فلغة الكتابة لها قيود وأوضاع وتقاليد، تغض من حرارة هذه الموحيات في صورتها الحية المباشرة. وينفرد الأسلوب القرآني بالقدرة على عرضها في هذه الصورة في


الصفحة التالية
Icon