والسلام :< ما من شيء بلغني عنك فعلته > ؟ فقال : يا رسول الله ! رأيت الناس يموجون على غير وجه ولم أدر أين الصواب، غير أني علمت أنهم ليسوا عليه، فرأيتهم يئدون بناتهم، فعرفت أن ربهم عزَّ وجل لم يأمرهم بذلك فلم أتركهم، ففديت ما قدرت عليه.
ويقال : إنه اجتمع جرير والفرزدق يوماً عند سليمان بن عبد الملك فافتخرا. فقال الفرزدق : أنا ابن محيي الموتى، فقال له سليمان : أنت ابن محيي الموتى ؟ فقال : إن جدي أحيا الموءودة، وقد قال الله تعالى :﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ﴾ [ المائدة : ٣٢ ]، وقد أحيا جدي اثنتين وتسعين موءودة، فتبسم سليمان، وقال : إنك مع شعرك لفقيه. نقله المرتضى في " أماليه " وبالجملة، فكان الوأد عادة من أشنع العوائد في الجاهلية، مما يدل على نهاية القسوة وتمام الجفاء والغلظة.
قال الإمام : انظر إلى هذه القسوة وغلظ القلب وقتل البنات البريئات بغير ذنب سوى خوف الفقر والعار، كيف استبدلت بالرحمة والرأفة بعد أن خالط الإسلام قلوب العرب ؟ فما أعظم نعمة الإسلام على الْإِنْسَاْنية بأسرها بمحوه هذه العادة القبيحة. انتهى.
ومن أثر نعمته أن صار أدباء الصدر الأول يَصوغون في مدحهن ما هو أبهى من عقود الجُمان، فمن ذلك قول معن بن أوس :
~رأيتُ رجالاً يكرهون بناتِهِمْ وفيهن لا نُكْذَبْ نساء صوالحُ
~وفيهن والأيام يعثرن بالفتى خوادِمُ لا يَمْلَلْنَهُ ونوائحُ
وقال العلويّ الجمانيّ في صديق له ولدت له بنت فسخطها، شعراً :
~قالوا له ماذا رُزقْتَا فأصاخ ثُمَّتَ قال بنتا
~وأجلّ من ولد النساء أبو البنات فلِمْ جزعتا
~إن الذين تودّ من بين الخلائق ما استطعتا
~نالوا بفضل البنتِ ما كَبَتُوا به الأعداء كبتاً
وحكي أن عمرو بن العاص دخل على معاوية وعنده ابنته، فقال : من هذه يا معاوية ؟ فقال : هذه تفاحة القلب وريحانة العين وشمامة الأنف. فقال : أَمِطْها عنك. قال : وَلِمَ ؟ قال : لأنهن يلدن الأعداء، ويقرّبنَ البعداء، ويُورِثْنَ الشحناء، ويُثْرنَ البغضاءَ. قال : لا تقل ذلك يا عمرو ! فوالله ما مَرّض المرضى، ولا ندب الموتى، ولا أعان على الزمان، ولا أذهب جيش الأحزان مثلهن، وإنك لواجدٌ خالاً قد نفعه بنو أخته، وأباً قد رفعه نسل بنيه. فقال : يا معاوية ! دخلت عليك وما على الأرض شيء أبغض إليّ منهن، وإني لأخرج من عندك وما عليها شيء أحب إلىّ منهن.


الصفحة التالية
Icon