ولقد تعرضت تصانيف القدامى أنفسهم في أسباب النزول للنقد الشديد، رغم ما اتسم به مؤلفوها من الورع البالغ والحذر العلمي الأمين، فلن يكون نقد ما نقوله اليوم إلا أشد وأقسى، ولن يكون المأخذ علينا إلا أمرَّ وأنكى!
وحسبك أن السيوطي-بعد أن ذكر الذين أفردوا هذا العلم بالتصنيف (١) - ما لبث أن عرض بما في كتاب "الواحدي" من "إعواز" (٢)، ثم عرض باختصار الجعبري لهذا الكتاب و"حذفه أسانيده من غير أن يزيد عليه شيئا"، وأخبر بعد ذلك بأن شيخ الإسلام أبا الفضل بن حجر ألف في أسباب النزول "كتابا مات عنه مسودة، فلم يتيسر للسيوطي أن يقف عليه كاملا" ومع أن عبارته تشي بأنه وقف على شيء منه أو على المسودة كلها التي مات أبو الفضل عنها لم يشر قط إلى إعجابه بصنيعه ورضاه عنه، بل أوشك أن يكون إلى نقده أقرب حين جعل صنيعه وصنائع السابقين كلهم في كفة، وصنيعه هو -أعني السيوطي- في كفة أخرى في "كتابه الحافل الموجز المحرر الذي لم يؤلف مثله في هذا النوع"، وهو المسمى "لباب النقول، في أسباب النزول!" (٣).
وربما لم يكن لافتخار السيوطي بكتابه كبير قيمة في نظرنا، فقد ألفنا في الأعصر المتأخرة هذه النغمة المزهوة الفخور تتردد في مواطن شتى من كتب أولئك العلماء الجماعين، وألفنا بصورة خاصة هذه النغمة غير المحببة في كتب لسيوطي نفسه رحمه الله وغفر له، ولكن يعنينا من لهجة الفخر هذه ما توحي به من إعواز الكتب القديمة حقا، فلولا نقص فيها حال دون وفائها بهذا العلم العظيم لما آنس السيوطي وغيره جراءة على رميها بالضعف والإعواز.
وليت ذلك الإعواز كان موطن الضعف الوحيد في هاتيك التصانيف: إنها لتعج حتى بالأخطاء التاريخية، والمغالطات المنطقية، والمبالغات العجيبة، والغرائب النادرة!
يقرأ الواحدي مثلا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾( سورة البقرة ١١٤ )، فلا يستنتج منه أنه وعيد عام مطلق للذين يستهينون بالمعابد، ويعطلون الشعائر، وينتهكون الحرمات، ويسعون في خراب بيوت الله، بل يقع في خطأ تاريخي فاحش لو كان متعلقا بشخصه هو لهان أمره، ولكنه يحمله حملا على نص في كتاب الله، وما

(١) - وقد عد السيوطي أقدمهم في هذا الباب علي ابن المديني شيخ البخاري. الإتقان ١/ ٤٨.
(٢) - الإتقان ١/ ٤٨. قلت نصف الكتاب بلا سند والنصف الآخر فيه الصحيح والحسن والضعيف والمنكر والهاي، بل والموضوع !!
(٣) - الإتقان ١/ ٤٨. وقد طبع "لباب النقول" ببولاق سنة ١٢٨٠هـ، بهامش "تفسير الجلالين".


الصفحة التالية
Icon