وعن عِرَاكَ بْنِ مَالِكٍ فال : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ :" قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - بِخَيْبَرَ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ يَؤُمُّ النَّاسَ، فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى : بِسُورَةِ مَرْيَمَ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِ : وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، فَكَانَ رَجُلٌ عِنْدَنَا لَهُ مِكْيَالِانِ، يَأْخُذُ بِأَحَدِهِمَا، وَيُعْطِي بِالْآخَرِ، فَقُلْتُ :" وَيْلٌ لِفُلَانٍ " مُشْكِلُ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ (١)
فهي مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل. ويقال : إنها أول سورة نزلت بالمدينة، فهي مدنية في قول الحسن وعكرمة.
وهذا على أن السورة مدنية، أو قرأها عليهم بعد قدومه إن كانت مكية.
ومقتضى هذا أن تكون الآيات مدنية. ولا تفهم حكمة لوضع آيات مدنية في رأس سورة تجمع الروايات على سلكها في عداد السور المكية. ويؤيد ذلك مضمونها وأسلوبها. وموضوعها من المواضيع التي ذكرت في سور مكية على ما ذكرناه آنفا. والذي يتبادر لنا أن الآيات تليت في موقف ما في المدينة على سبيل الإنذار والتقريع، فأدّى ذلك إلى الالتباس. وهو ما نرجّحه في كثير من الآيات التي يروى أنها مدنية ووردت في سور مكيّة. (٢)
والقول بأن هذه السورة هى آخر ما نزل بمكة، أولى من القول بأنها نزلت فى المدينة.. ذلك أن نزولها بالمدينة، وفى أول مقدم الرسول إليها، فيه مواجهة بالخزي والفضيحة، والتشنيع، على هؤلاء القوم الكرام، الذي استجابوا لدين اللّه، ورصدوا أنفسهم وأموالهم لنصرته، وفتحوا مدينتهم ودورهم لإيواء المسلمين الفارّين بدينهم من مشركى قريش.. وإن الذي يتفق وأدب الإسلام وحكمته لعلاج هذا الأمر المنكر، الذي قيل إنه كان فاشيا فى أهل المدينة ـ الذي يتفق مع أدب الإسلام وحكمته أن يعلن رأيه فى هذا الأمر، وحكمه على فاعليه، بعيدا عن موقع المواجهة، وأن يرمى به فى وجه المشركين قبل أن تنتقل الدعوة من ديارهم، حتى إذا بلغت سورة المطففين أسماع أهل المدينة، انخلعوا من هذا المنكر، واستقبلوا رسول اللّه صلوات اللّه وسلامه عليه، وقد طهرت مدينتهم من هذا الخبث.
والخيانة فى الكيل والميزان، ليست كما يبدو فى ظاهرها، أمرا عارضا هينا، لا يمسّ إلا جانبا من حواشى حياة الجماعة، ولا يؤثر تأثيرا ذا بال فى نظام حياتها.. وكلّا، فإن هذا الداء، إذا تفشّى فى مجتمع من المجتمعات، أفسد نظامه كله، وامتد ظله الأسود الكئيب على حياة المجتمع، مادياتها ومعنوياتها جميعا.. وحسب أي جماعة ضياعا وهلاكا، أن تفقد الثقة فى معاملاتها، وأن يكون الاتهام نقدا متبادلا بين أفرادها، أخذا، وإعطاء..

(١) - مُشْكِلُ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ(٣٠٧٩ ) صحيح
(٢) - التفسير الحديث، ج ٥، ص : ٥٠٨


الصفحة التالية
Icon