واللّه - جل شأنه - يقسم على أن كل نفس من النفوس عليها رقيب وحفيظ، وليست في النفوس نفس تترك هملا بلا حساب ولا رقابة، ومن هو الحفيظ ؟ هو اللّه فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وقيل : هو الملك الموكل بالإنسان.
فإذا كنت في شك من ذلك فلينظر الإنسان إلى نفسه وكيف خلق ؟ !
إنه خلق من ماء دافق : ماء مصبوب، يخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة، وهذا الماء السائل كيف يتكون منه خلق سوى ؟ وإنسان كامل في كل شي ء!
لا يعقل أن يكون ذلك بمحض الصدفة أو بفعل الطبيعة، وإلا لكانت كل الخلائق سواء.
هذا الخلق بهذا الشكل، وعلى تلك الصورة دليل على أن لكل نفس رقيبا وحفيظا يراقب ذلك كله ويدبره، وينقله من حال إلى حال، ولا يعقل أن تترك تلك النفوس سدى بلا ثواب أو عقاب، الإنسان خلق من ماء دافق خارج من صلب الرجل وترائب المرأة وهذا الماء من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء من النبات، ثم هذا الماء لا يصلح إلا إذا كان الأب مع الأم على وضع خاص. فمن الذي جمع كل هذا ؟ أظن أن القادر على ذلك قادر على إرجاع الإنسان وإحيائه يوم تكشف السرائر، وتظهر مكنونات الضمائر، والإنسان عند ذلك ما له من قوة يدفع بها العذاب أو يجلب بها الثواب، وليس له ولى ولا ناصر. (١)
التفسير والبيان :
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ، وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ ؟ النَّجْمُ الثَّاقِبُ أي قسما بالسماء البديعة، والكوكب النير البادي ليلا، وما أعلمك ما حقيقته ؟ إنه النجم المضيء الشديد الإضاءة، كأنه يخرق بشدة ضوئه ظلمة الليل البهيم.
والحلف بالسماء والكواكب والشمس والقمر والليل والنهار التي أكثر اللَّه تعالى في كتابه الحلف بها لأن أحوالها في أشكالها وسيرها ومطالعها ومغاربها عجيبة، وفيها دلالة على أن لها خالقا مدبرا ينظم أمرها. وقوله : وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ ؟ يراد به التهويل والتفخيم، كأن هذا النجم البعيد في آفاق السموات لا يمكن لبشر إدراكه ومعرفة حقيقته، قال سفيان بن عيينة : كل شيء في القرآن : ما أَدْراكَ فقد أخبر اللَّه الرسول به، وكل شيء فيه ما يُدْرِيكَ لم يخبره به، كقوله : وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى ٤٢/ ١٧].
والطارق : اسم جنس، وسمي طارقا لأنه يطرق بالليل، ويخفى بالنهار، وكل ما أتاك ليلا فهو طارق.

(١) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (٣ / ٨٥١)


الصفحة التالية
Icon