وَأَمَرَ الْمَلِكُ مَنْ أَرَادَ مِنْ نِسَائِهِ، وَخَدَمِهِ بِالْجِهَازِ إِلَى إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، فَأَقَامُوا فِي جَهَازِهِمْ إِلَيْهَا عَشْرَ سِنِينَ، فَسَارَ الْمَلِكُ بِمَنْ أَرَادَ، وَخَلَفَ مِنْ قَوْمِهِ فِي عَدَنِ أَبْيَنَ، وَالشُّجَرَاءُ كُثْرٌ مِمَّا سَارَ، فَلَمَّا اسْتَقَلَّ وَسَارَ إِلَيْهَا لِيَسْكُنَهَا، وَبَلَغَهَا إِلَّا مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ صَيْحَةً مِنَ السَّمَاءِ، فَأَهْلَكَتْهُمْ جَمِيعًا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَمْ يَدْخُلْ إِرَمَ ذَاتَ الْعِمَادِ، وَلَا مَنْ كَانَ مَعَهُ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى السَّاعَةِ، فَهَذِهِ صِفَةُ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَيَدْخُلُهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَانِكَ هَذَا وَيَرَى مَا فِيهَا، وَيُحَدِّثُ بِمَا فِيهَا، وَلَا يُصَدَّقُ. قَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ :" يَا أَبَا إِسْحَاقَ، هَلْ تَصِفُهُ ؟ " قَالَ : نَعَمْ، هُوَ رَجُلٌ أَحْمَرُ أَشْقَرُ قَصِيرٌ، عَلَى حَاجِبِهِ خَالٌ، وَعَلَى عُنُقِهِ خَالٌ، يَخْرُجُ ذَلِكَ الرَّجُلُ فِي طَلَبِ إِبِلٍ لَهُ فِي تِلْكَ الصَّحَارِي، فَيَقَعُ عَلَى إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ فَيَدْخُلُهَا وَيَحْمِلُ مِمَّا فِيهَا، وَالرَّجُلُ جَالِسٌ عِنْدَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَالْتَفَتَ كَعْبٌ فَرَأَى ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَقَالَ : هَذَا ذَلِكَ الرَّجُلُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاسْأَلْهُ عَمَّا حَدَّثْتُكَ بِهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : يَا أَبَا إِسْحَاقَ، هَذَا مِنْ خَدَمِي، وَلَمْ يُبَالِ حَتَّى قَالَ : فَقَدْ دَخَلَهَا، وَإِلَّا فَسَيَدْخُلُهَا، وَسَيَدْخُلُهَا أَهْلُ هَذَا الدِّينِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ :" لَقَدْ فَضَّلَكَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَبَا إِسْحَاقَ عَلَى غَيْرِكَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَقَدْ أُعْطِيتَ مِنْ عِلْمِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ ". فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي التَّوْرَاةِ لِعَبْدِهِ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامُ، تَفْسِيرًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَشِدَّةٌ وَوَعِيدٌ، وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا، وَشِدَّةٌ وَوَعِيدًا " (١)
قال ابن خلدون : وهذه المدينة لم يسمع لها خبر من يومئذ في شيء من بقاع الأرض، وصحارى عدن التي زعموا أنها بنيت فيها هي في وسط اليمن وما زآل عمرانه متعاقباً والأدلاء تقص طرقهُ من كل وجه. ولم ينقل عن هذه المدينة خبر ولا ذكرها أحد من الأخباريين ولا من الأمم، ولو قالوا : إنها درست فيما درس من الآثار لكان أشبهُ، إلا أن ظاهر كلامهم أنها موجودة، وبعضهم يقول : إنها دمشق، بناء على أن قوم عاد ملكوها. وقد انتهى الهذيان ببعضهم إلى أنها غائبة، وإنما يعثر عليها أهل الرياضة والسحر. مزاعم كلها أشبهُ بالخرافات. والذي حمل المفسرين على ذلك ما اقتضته صناعة الإعراب في لفظه :﴿ ذَاتِ الْعِمَادِ ﴾ أنها صفة ﴿ إِرَمَ ﴾ وحملوا العماد على الأساطين ؛ فتعين أن يكون بناء، ورشح لهم ذلك قراءة ابن الزبير : عاد إرم على الإضافة من غير تنوين. ثم وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة التي هي أقرب إلى الكذب المنقولة في عداد المضحكات، وإلا فالعماد هي عماد الأخبية بل الخيام. وإن أريد بها الأساطين، فلا بدع في