﴿ والليل إذا يسر ﴾.. والليل هنا مخلوق حي، يسري في الكون، وكأنه ساهر يجول في الظلام! أو مسافر يختار السرى لرحلته البعيدة! يا لأناقة التعبير! ويا لأنس المشهد! ويا لجمال النغم! ويا للتناسق مع الفجر، والليالي العشر. والشفع والوتر!
إنها ليست ألفاظاً وعبارات. إنما هي أنسام من أنسام الفجر، وأنداء مشعشعة بالعطر! أم إنه النجاء الأليف للقلب؟ والهمس اللطيف للروح؟ واللمس الموحي للضمير؟
إنه الجمال.. الجمال الحبيب الهامس اللطيف. الجمال الذي لا يدانيه جمال التصورات الشاعرية الطليقة. لأنه الجمال الإبداعي، المعبر في الوقت ذاته عن حقيقة.
ومن ثم يعقب عليه في النهاية :﴿ هل في ذلك قسم لذي حجر ﴾ ؟ وهو سؤال للتقرير. إن في ذلك قسماً لذي لب وعقل. إن في ذلك مقنعاً لمن له إدراك وفكر. ولكن صيغة الاستفهام مع إفادتها التقرير أرق حاشية. فهي تتناسق مع ذلك الجو الهامس الرقيق!
أما المقسم عليه بذلك القسم، فقد طواه السياق، ليفسره ما بعده، فهو موضوع الطغيان والفساد، وأخذ ربك لأهل الطغيان والفساد، فهو حق واقع يقسم عليه بذلك القسم في تلميح يناسب لمسات السورة الخفيفة على وجه الإجمال :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد؟ وثمود الذين جابوا الصخر بالواد؟ وفرعون ذى الأوتاد؟.. الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب؟ إن ربك لبالمرصاد ﴾.
وصيغة الاستفهام في مثل هذا السياق أشد إثارة لليقظة والالتفات. والخطاب للنبي - ﷺ - ابتداء. ثم هو لكل من تتأتى منه الرؤية أو التبصر في مصارع أولئك الأقوام، وكلها مما كان المخاطبون بالقرآن أول مرة يعرفونه؛ ومما تشهد به الآثار والقصص الباقية في الأجيال المتعاقبة، وإضافة الفعل إلى ﴿ ربك ﴾ فيها للمؤمن طمأنينة وأنس وراحة.
وبخاصة أولئك الذين كانوا في مكة يعانون طغيان الطغاة، وعسف الجبارين من المشركين، الواقفين للدعوة وأهلها بالمرصاد.
وقد جمع الله في هذه الآيات القصار مصارع أقوى الجبارين الذين عرفهم التاريخ القديم.. مصرع :« عاد إرم » وهي عاد الأولى. وقيل : إنها من العرب العاربة أو البادية. وكان مسكنهم بالأحقاف وهي كثبان الرمال. في جنوبي الجزيرة بين حضرموت واليمن. وكانوا بدواً ذوي خيام تقوم على عماد. وقد وصفوا في القرآن بالقوة والبطش، فقد كانت قبيلة عاد هي أقوى قبيلة في وقتها وأميزها :﴿ التي لم يخلق مثلها في البلاد ﴾ في ذلك الأوان..
﴿ وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ﴾.. وكانت ثمود تسكن بالحجر في شمال الجزيرة العربية بين المدينة والشام. وقد قطعت الصخر وشيدته قصوراً؛ كما نحتت في الجبال ملاجئ ومغارات..


الصفحة التالية
Icon