فأما الإنسان الكافر فيتوهم خلاف ذلك إذ يحسب أن ما يناله من نعمة وسَعَة في الدنيا تكريماً من الله له، وما يناله من ضيق عيش إهانَةً أهانه الله بها.
وهذا التوهم يستلزم ظنهم أفعال الله تعالى جارية على غير حكمة قال تعالى :( ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ ( ( فصلت : ٥٠ ).
فأعلم الله رسوله ( - ﷺ - ) والمؤمنين بالحقيقة الحق ونبههم لتجنب تخليط الدلائل الدقيقة السامية، وتجنب تحكيم الواهمة والشاهية، وذكرهم بأن الأحوال الدنيوية أعراض زائلة ومتفاوتة الطول والقصر، وفي ذلك كله إبطال لمعتقد أهل الشرك وضلالهم الذي كان غالباً على أهل الجاهلية ولذلك قال النابغة في آل غسان الذين لم يكونوا مشركين وكانوا متدينين بالنصرانية :
مَجَلَّتُهم ذَاتُ الإلاه ودينُهم قَويم فَمَا يَرْجُونَ غَيْرَ العَوَاقِب
وَلا يَحْسَبُون الخَيْرَ لا شَرَّ بعدَه ولا يحسبُون الشرَّ ضَرْبَةَ لازِبِ
وقد أعقب الله ذلك بالردع والإبطال بقوله :( كلا ). فمناط الردع والإبطال كِلا القولين لأنهما صادران عن تأويل باطل وشبهة ضالّة كما ستعرفه عند قوله تعالى :( فأكرمه ونعمه ).
واقتصار الآية على تقتير الرزق في مقابلة النعمة دون غير ذلك من العلَللِ والآفات لأن غالب أحوال المشركين المتحدث عنهم صحة المزاج وقوة الأبدان فلا يهلكون إلا بقتل أو هَرم فيهم وفي ذويهم، قال النابغة :
تَغْشَى مَتَالِفَ لا يُنْظِرْنَكَ الهَرَمَا
ولم يعرج أكثر المفسرين على بيان نَظْم الآية واتصالها بما قبلها عدا الزمخشري وابنَ عطية.
وقد عرف هذا الإعتقاد الضال من كلام أهل الجاهلية، قال طرفة :
فلو شاءَ ربّي كنتُ قيسَ بنَ عاصم ولو شَاء رَبي كنتُ عَمْرَو بنَ مَرْثَدِ
فأصبحتُ ذا مال كثيرٍ وطاف بي بَنُون كرامٌ سَادَة لمُسَوَّد
وجعلوا هذا الغرور مقياساً لمراتب الناس فجعلوا أصحاب الكمال أهل المظاهر الفاخرة، ووصموا بالنقص أهل الخصاصة وضعفاء الناس، لذلك لما أتى الملأ من قريش ومن بني تميم وفزارة للنبيء ( - ﷺ - ) وعنده عَمَّار، وبلالٌ، وخبابٌ، وسالمٌ، مولَى أبي حذيفة، وصُبَيح مولى أُسَيْد، وصُهَيْبٌ، في أناس آخرين من ضعفاء المؤمنين قالوا للنبيء أطْرُدهم عنك فَلَعلّك إن طردتهم أن نتبعك. وقالوا لأبي طالب : لو أن ابن أخيك طَرد هؤلاء الأعْبُدَ والحُلَفَاءَ كان أعظمَ له في صدُورنا وأدلى لاتِّباعنا إياه. وفي ذلك نزل قوله تعالى :( ولا تطرد الذين يدعون ربهم الآية كما تقدم في سورة الأنعام.