والوالد والولد وبين المقسم عليه، فأقول لك : هذا تفخيم لمكة ورفع لشأنها، أى : أقسم بهذا البلد، والحال أن أهلها قد استحلوا إيذاءك وإيلامك - وهذا معنى : وأنت حل، أى : مستحل لهم - فهم لم يرعوا حرمة بلدهم في معاملتك، وفي هذا إيقاظ لضميرهم، وتعنيف لهم على فعلهم مع النبي - ﷺ - ولعلك تسأل : وما العلاقة بين القسم والمقسم عليه ؟ والجواب : أنه جاء تسلية للنبي - ﷺ - فهو في مكة وقد ناله ما ناله من تعب ومشقة، وهذا المتعب مما يخفف عنه أن يعلم أن أفراد الإنسان كلهم في تعب ومشقة، ولا تنس أن ذكر الوالد والولد مما يبشر أن مكة ستلد ما به تفخر الإنسانية كلها وتعتز :
وإن يكن هذا مع تعب ومشقة، وكلنا يعرف ما يلاقي الولد والوالد في ذلك حتى البذرة في الأرض وعند الحصاد.
أيحسب الإنسان المغرور بقوته المتباهى بشدته رغم ما هو فيه من تعب ونصب أن لن يقدر عليه أحد ؟ ! وهذا نوع منه، وذاك نوع آخر يقول : أهلكت مالا كثيرا، وإن كان في الشر، وهذا قول المفتونين بمالهم وغناهم، أيظن أولئك أن اللّه لم يرهم، إن اللّه يعلم ما أنفق، ولا يقبل منه إلا الطيب.
يقول الشيخ محمد عبده - رحمه اللّه - في تفسيره : بعد أن أخبر اللّه - جل شأنه - بأن الإنسان قد خلق في كبد لام الجاهل المغرور على غروره حتى كأنه يظن أن لن يقدر عليه أحد. مع أن ما هو فيه من المكابدة كاف لإيقاظه من غفوته واعترافه بعجزه، وبعد أن وبخ المرائين الذين ينفقون أموالهم طلبا للشهرة وحبا في الأحدوثة مع حسن النية، أراد أن يبين لهؤلاء وأولئك أنه مصدر لأفضل ما يتمتعون به من البصر والنطق والعقل المميز بين الخير والشر. (١)
التفسير والبيان :
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ، وَوالِدٍ وَما وَلَدَ أي أقسم بالبلد الحرام وهو مكة، تنبيها على كرامة أم القرى وشرفها عند اللَّه تعالى لأن فيها بيته الحرام قبلة المسلمين، وهي بلد إسماعيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وفيها مناسك الحج. وقوله : لا أُقْسِمُ قسم مؤكد وليس نفيا للقسم، كقول العرب : لا واللَّه لا فعلت كذا، ولا واللَّه ما كان كذا، ولا واللَّه لأفعلن كذا.
أقسم بهذا البلد في حال كون الساكن فيها حلالا مقيما بها وهو محمد - ﷺ - وكل من دخله : وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران ٣/ ٩٧] تشريفا لك، وتعظيما لقدرك لأنه قد صار بإقامتك فيه عظيما شريفا، ولا شك أن الأمكنة تشرف بأهلها. والحل : الحلال.

(١) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (٣ / ٨٦٥)


الصفحة التالية
Icon