وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (٥٤) وآيات سورة العاديات هذه : إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) وآيات سورة الفجر هذه كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) ويلحظ أن الآيات جاءت في معرض التنديد والتقريع للناس بسبب هذه الطباع مما يثير تساؤلا عمّا إذا كان من المعقول أن يندد اللّه سبحانه بطبائع خلق الإنسان عليها؟ والمتبادر الذي يلهمه تنديد القرآن بهذه الطبائع ويلهمه سياق الآيات وروحها أن هذه الآيات صيغ أسلوبية مما اعتاد الناس أن يخاطبوا بعضهم بعضا بها وأن المقصد الحقيقي منها هو التنديد بما يبدو من كثير من الناس من مثل هذه الأخلاق والطبائع غير المستحبة، وأنه لا ينبغي حملها على محمل قصد بيان أن اللّه قد خلق الإنسان أو تعمد خلقه على هذه الطبائع التي ندّد بها في مختلف المناسبات القرآنية ولا سيما أن اللّه سبحانه قد نبّه في سياق الآية التي نحن في صددها وفي المناسبات المماثلة أن اللّه بيّن للناس طريقي الخير والشرّ والتقوى والفجور، وأوجد فيهم قابلية التمييز بينهما وجعلهم مسؤولين عن اختيارهم وسلوكهم إن خيرا فخير وإن شرا فشرّ مما مرّ منه أمثلة عديدة في المناسبات السابقة. (١)
والمراد بالحلّ، هنا هو النبىّ ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ وأنّ المشركين لم يرعوا فيه حرمة القرابة، ولا حرمة البلد الحرام الذي يأوى إليه، بل أباحوا سبّه وشتمه، وأطلقوا ألسنتهم بكل قالة سوء فيه، بل وتجاوزوا هذا إلى التعرض له بالأذى المادي، حتى لكادوا يرجمونه..
وهنا ندرك بعض السر فى نفى القسم بالبلد الحرام.. لقد جعله المشركون بلدا غير حرام، وغيّروا صفته التي له، حتى لقد صار هذا البلد غير أهل لأن يقسم به من اللّه سبحانه، لأن القسم من اللّه هو تشريف وتكريم لما يقسم به سبحانه، وإن اللّه سبحانه لن يقسم بهذا البلد ما دام النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ لا ترعى له حرمة فى البلد الحرام.. فإن حرمة هذا البلد من حرمة النبي، وأنه إنما أقيم من أول وجود للمجتمع الإنسانى، ليستقبل دين اللّه وقد كمل، وليكون مطلعا لخاتم المرسلين وقد ظهر.
وفى نفى القسم بالبلد الحرام، تجريم للمشركين، وتشنيع على جنايتهم الغليظة التي اقترفوها فى حق رسول اللّه، وفى حق البلد الأمين، وأن تلك الجناية الشنعاء قد امتدت آثارها إلى البلد الحرام، فسلبته حرمته، وأن اللّه سبحانه وتعالى رافع عنه هذه الحرمة، حتى ينتقم لنبيه

(١) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (٢ / ٢٥٤)


الصفحة التالية
Icon