«قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ».. هو الواقع عليه هذه الأقسام، فهو جوابها.. إن السعيد من الناس، من زكّى نفسه وطهرها فحلصها من تراب الأرض، وأطلق روحه من أسر المادة، فحلّقت به فى عالم الحق والنور.
وإن الشقي من دسّى نفسه، أي أخفاها، وغطّى عليها بكثافة المادة وظلامها، وعاش حبيسا داخل هذه القوقعة التي نسجها حول نفسه، لا يرى، ولا يسمع، ولا يتحرك.
و« ما » فى قوله تعالى :« وَالسَّماءِ (وَ ما) بَناها، وَالْأَرْضِ (وَ ما) طَحاها وَنَفْسٍ (وَ ما) سَوَّاها » هى « ما » المصدرية، أي والشمس، وبنائها، والأرض وبسطها، والنفس وتسوية خلقها..
فقوله تعالى :« وَما بَناها » أي وما بنى السماء، وأقامها من غير عمد.. وهو ما أودع اللّه سبحانه وتعالى فيها من قوى ممسكة بها، ضابطة لنظامها، حافظة لوجودها..
وقوله تعالى :« وَما طَحاها » أي وما طحا الأرض، أي بسطها، وأمسك بها أن تميد.. وهو النظام الذي يمسك كيانها ويحفظ وجودها..
وقوله تعالى :« وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها » أي وما سوى خلقها، وأمدها بالقوى العالمة فيها..
فالقسم هنا، قسم بالشيء، والصفة التي قام عليها.. وهذا يعنى مزيدا من التشريف والتكريم للشىء المقسم به إذ كان فى ذاته أهلا للقسم، ثم كانت صفاته أهلا للقسم أيضا. (١)
يقسم الله سبحانه بهذه الخلائق والمشاهد الكونية، كما يقسم بالنفس وتسويتها وإلهامها. ومن شأن هذا القسم أن يخلع على هذه الخلائق قيمة كبرى؛ وأن يوجه إليها القلوب تتملاها، وتتدبر ماذا لها من قيمة وماذا بها من دلالة، حتى استحقت أن يقسم بها الجليل العظيم.
ومشاهد الكون وظواهره إطلاقاً بينها وبين القلب الإنساني لغة سرية! متعارف عليها في صميم الفطرة وأغوار المشاعر. وبينها وبين الروح الإنساني تجاوب ومناجاة بغير نبرة ولا صوت، وهي تنطق للقلب، وتوحي للروح، وتنبض بالحياة المأنوسة للكيان الإنساني الحي، حيثما التقى بها وهو مقبل عليها، متطلع عندها إلى الأنس والمناجاة والتجاوب والإيحاء.
ومن ثم يكثر القرآن من توجيه القلب إلى مشاهد الكون بشتى الأساليب، في شتى المواضع. تارة بالتوجيهات المباشرة، وتارة باللمسات الجانبية كهذا القسم بتلك الخلائق والمشاهد، ووضعها إطاراً لما يليها من الحقائق. وفي هذا الجزء بالذات لاحظنا كثرة هذه التوجيهات واللمسات كثرة ظاهرة. فلا تكاد سورة واحدة تخلو من إيقاظ القلب لينطلق إلى هذا الكون،