نوقن من وراء كل شيء أن يد الله هي تمسك هذا البناء :﴿ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا. ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ﴾ وهذا هو العلم المستيقن الوحيد!
كذلك يقسم بالأرض وطحوِها :﴿ والأرض وما طحاها ﴾.. والطحو كالدحو : البسط والتمهيد للحياة. وهي حقيقة قائمة تتوقف على وجودها حياة الجنس البشري وسائر الأجناس الحية. وهذه الخصائص والموافقات التي جعلتها يد الله في هذه الأرض هي التي سمحت بالحياة فيها وفق تقديره وتدبيره. وحسب الظاهر لنا أنه لو اختلت إحداها ما أمكن أن تنشأ الحياة ولا أن تسير في هذا الطريق الذي سارت فيه.. وطحو الأرض أو دحوها كما قال في الآية الأخرى :﴿ والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها ﴾ وهو أكبر هذه الخصائص والموافقات. ويد الله وحدها هي التي تولت هذا الأمر. فحين يذكر هنا بطحو الأرض، فإنما يذكر بهذه اليد التي وراءه. ويلمس القلب البشري هذه اللمسة للتدبر والذكرى.
ثم تجيء الحقيقة الكبرى عن النفس البشرية في سياق هذا القسم، مرتبطة بالكون ومشاهده وظواهره. وهي إحدى الآيات الكبرى في هذا الوجود المترابط المتناسق :﴿ ونفس وما سواها. فألهما فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها ﴾..
وهذه الآيات الأربع، بالإضافة إلى آية سورة البلد السابقة :﴿ وهديناه النجدين ﴾ وآية سورة الإنسان :﴿ إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً ﴾ تمثل قاعدة النظرية النفسية للإسلام.. وهي مرتبطة ومكملة للآيات التي تشير إلى ازدواج طبيعة الإنسان، كقوله تعالى في سورة « ص » :﴿ إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ﴾ كما أنها مرتبطة ومكملة للآيات التي تقرر التعبة الفردية : كقوله تعالى في سورة المدثر :﴿ كل نفس بما كسبت رهينة ﴾ والآيات التي تقرر أن الله يرتب تصرفه بالإنسان على واقع هذا الإنسان، كقوله تعالى في سورة الرعد :﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ ومن خلال هذه الآيات وأمثالها تبرز لنا نظرة الإسلام إلى الإنسان بكل معالمها..
إن هذا الكائن مخلوق مزدوج الطبيعة، مزدوج الاستعداد، مزدوج الاتجاه ونعني بكلمة مزدوج على وجه التحديد أنه بطبيعة تكوينه ( من طين الأرض ومن نفخة الله فيه من روحه ) مزود باستعدادات متساوية للخير والشر، والهدى والضلال. فهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شر. كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر سواء. وأن هذه القدرة كامنة في كيانه، يعبرعنها القرآن بالإلهام تارة :﴿ ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها ﴾.. ويعبر عنها بالهداية تارة :﴿ فهديناه النجدين ﴾ فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد.. والرسالات والتوجيهات والعوامل الخارجية إنما توقظ هذه الاستعدادات وتشحذها وتوجهها هنا أو هناك. ولكنها لا تخلقها خلقاً. لأنها مخلوقة فطرة، وكائنة طبعاً، وكامنة إلهاماً.