قال الإمام : وإنما أقسم بذاته بهذا العنوان، لما فيه من الإشعار بصفة العلم المحيط بدقائق المادة وما فيها، والإشارة إلى الإبداع في الصنع ؛ إذ لا يعقل أن هذا التخالف بين الذكر والأنثى، في الحيوان، يحصل بمحض الاتفاق من طبيعة لا شعور لها بما تفعل، كما يزعم بعض الجاحدين، فإن الأجزاء الأصلية في المادة متساوية النسبة إلى كون الذكر أو كون الأنثى، فتكوين الولد من عناصر واحدة تارةً ذكراً وتارةً أنثى، دليل على أن واضع هذا النظام عالم بما يفعل، محكم فيما يضع ويصنع. انتهى (١).
الخطاب في الآيات موجه إلى السامعين بأسلوب مطلق وتقريري. وقد تضمنت :
١ - قسما ربانيا بالليل إذا خيم والنهار إذا انجلى، وما خلق اللّه من ذكر وأنثى إن الناس في سلوكهم وأعمالهم أنواع. منهم المؤمن باللّه والمتصدق بماله والمصدق بوعود اللّه الحسنى في الدنيا والآخرة. وهذا ييسره اللّه في السبيل اليسرى التي فيها النجاة والسعادة. ومنهم البخيل الذي يستشعر الغنى عن غيره وربه، البخيل بماله الجاحد لوعود اللّه الحسنى في الدنيا والآخرة. وهذا ييسره اللّه في السبيل العسرى التي فيها الهلاك والخسران ولن يغني عنه ماله ويقيه السقوط والتردي في ذلك المصير الرهيب.
٢ - وتقريرا ربانيا بأن ما للناس على اللّه هو أن يبين لهم طريق الهدى والخير ويدلهم عليه ويحذرهم من طريق الضلال والشر، وبأن أمر الدنيا والآخرة في يده وهو المتصرف فيهما تصرفا مطلقا.
والآيات كما هو ظاهر بسبيل الدعوة العامة للناس. وليس فيها مواقف ومشاهد حجاجية وتكذيبية. وفيها مبادئ هذه الدعوة بإيجاز بليغ وهي الإيمان باللّه وتصديق وعود اللّه والعمل الصالح ونفع الغير ومساعدتهم وعدم البخل بالمال بسبيل ذلك مع التنبيه على أن هذا المال لن يغني عنه شيئا إذا لم يستجب للدعوة و يلتزم بمبادئها. فمن فعل ذلك فهو ناج سعيد ومن فعل العكس فهو خاسر شقي.
وقد انطوى فيها حكمة إرسال اللّه الرسل للناس ليبين لهم بلسانهم معالم الهدى. كما انطوى فيها تقرير كون الناس موكولين بعد ذلك إلى اختيارهم للطريق التي يسيرون فيها ومستحقين للنتائج التي تترتب على هذا الاختيار في الدنيا والآخرة معا. وكل هذا مما تكرر تقريره بحيث يعد من المبادئ القرآنية المحكمة.
ولقد روى الشيخان والترمذي في سياق هذه الآيات حديثا عن علي بن أبي طالب قال :«كنّا مع النبي - ﷺ - في بقيع الغرقد في جنازة فقال ما منكم من أحد إلّا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من