الذكر القلبيّ فيشمل كل موطن من مواطن العبادة والطاعة، فإن العاقل المؤمن إذا ذكر الله، تذكر من دل على معرفته وهداهُ إلى طاعته، وهو رسول الله - ﷺ -، كما قيل :
~فأنت باب الله أي : امرئ أتاهُ من غيرك لا يدخل ؟
ولك أن تقول : المراد برفع ذكره تشريفه - ﷺ - بمقارنته لذكره في شعائر الدين الظاهرة، وأولها كلمتا الشهادة، وهما أساس الدِّين ثم الأذان والصلاة والخطب، فالحصر إضافيّ. انتهى كلام الشهاب.
وقوله تعالى :﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾ إشارة إلى أن الذي منحهُ - صلوات الله عليه - من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر، بعد ضيق الأمر واستحكام حلقات الكرب في أول السير، كان على ما جرت به سنتهُ تعالى في هذا النوع من الخليقة، وهو أن مع العسر يسراً ؛ ولهذا وصل العبارة بالفاء التي لبيان السبب. وأل في ﴿ الْعُسْرِ ﴾ للاستغراق ولكنه استغرق بالمعهود عند المخاطبين من أفراده أو أنواعه، فهو العسر الذي يعرض من الفقر والضعف وجهل الصديق وقوة العدوّ، وقلة الوسائل إلى المطلوب ونحو ذلك مما هو معهود ومعروف، فهذه الأنواع من العسر مهما اشتدت، وكانت النفس حريصة على الخروج منها طالبة لكشف شدتها، واستعملت من وسائل الفكر والنظر والعمل على ما من شأنه أن يعدّ لذلك في معروف العقل، واعتصمت بعد ذلك بالتوكل على الله حتى لا تضعفها الخيبة لأول مرة، ولا يفسخ عزيمتها ما تلاقيه عند الصدمة الأولى ؛ فلا ريب في أن النفس تخرج منها ظافرة. وقد كان هذا حال النبي - ﷺ -، فإن ضيق الأمر عليه كان يحمله على الفكر والنظر، حتى آتاه الله ما هو أكبر من ذلك، وهو الوحي والنبوة، ثم لم تكسر مقاومات قومه شيئاً من عزمه، بل ما زال يلتمس الغنى في الفقر، والقوة في الضعف، حتى أوتي من ذلك ما زعزع أركان الأكاسرة والقياصرة وترك منه لأمته ما تمتعت به أعصاراً طوالاً. أفاده الإمام رحمه الله.
وقال ابن جرير : اجعل نيتك ورغبتك إليه دون من سواه من خلقه ؛ إذ كان هؤلاء المشركون من قومك قد جعلوا رغبتهم في حاجاتهم إلى الآلهة والأنداد. والأظهر عندي - اعتماداً على ما صححناه من أن الآية مدنية وأنها من أواخر ما نزل - أن يكون معنى قوله تعالى :﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ﴾ أي : فرغت من مقارعة المشركين، وظفرت بأمنيتك منهم، بمجيء نصر الله والفتح، فانصب في العبادة والتسبيح والاستغفار، شكراً لله على ما أنعم، وأرغب إليه خاصة ابتغاءً لمرضاته ؛ فتكون الآيتان بمعنى سورة :﴿ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ ثم رأيت ابن جرير نقل مثله عن ابن زيد عن أبيه قال : فإذا فرغت من الجهاد، جهاد العرب وانقطع جهادهم، فانصب لعبادة الله وإليه فارغب. وهو ظاهر. نعم لفظ الآية عام فيما أثرناه جميعهُ،