وأسلوب الآيات التي تعدد مشاهد الكون ونعم اللّه التي يتمتع بها الناس موجّه إلى كل فئة وقوي نافذ لأنه متّصل بمشاهداتهم وما يتمتعون به. ويلهم في الوقت نفسه أن السامعين ومنهم الكفار يعترفون بأن ما يرونه ويلمسونه ويتمتعون به هو من آثار قدرة اللّه تعالى وصنعته. ومن هنا يكون التدليل بها على قدرة اللّه على تحقيق النبأ العظيم الذي يتساءل عنه الكفار قويّا ملزما. (١)
قوله تعالى :« عَمَّ يَتَساءَلُونَ » ؟
أي عن أي شىء يتساءل هؤلاء المشركون ؟ وهل هناك مشكلة مستعصية عليهم، حتى يكون منهم هذا التساؤل الملحاح، الذي يصبحون فيه ويمسون ؟
قوله تعالى :« عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ». يجوز أن يكون هذا جوابا عن السؤال الوارد فى قوله تعالى :« عَمَّ يَتَساءَلُونَ » ؟ أي أنهم يتساءلون عن النبأ العظيم، الذي اختلفت فيه آراؤهم، وتشعبت به فى طرق الضلال عقولهم، دون أن يتعرف أحد منهم الطريق إلى الهدى، وإلى الخروج من دوامة هذا الاختلاف.. إنهم لا يختلفون فى سبيل البحث عن الحقيقة، والتعرف عليها، وإنما خلافهم فى أن يجدوا طريقا واحدا من طرق الضلال والبهتان، تجتمع عليه كلمتهم، ويلتقى عنده رأيهم.
والنبأ العظيم، هو الأمر ذو الشأن، الذي تغطّى أخباره كل خبر، فتتجه إليه الأنظار، وتشغل به الخواطر.. والمراد به هنا، القرآن الكريم، وما يحدثهم به عن البعث والقيامة، والحساب.. الأمر الذي لا تحتمل عقولهم تصور إمكانه.
ويجوز أن يكون قوله تعالى :« عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ » سؤالا آخر بعد السؤال الأول :« عَمَّ يَتَساءَلُونَ » ؟. أي أيتساءلون عن هذا النبأ العظيم، الذي هم مختلفون فى مذاهب القول فيه، وفى أن ما يحدثهم به النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ عن البعث، والحساب والجزاء، شىء لا يصدق، وأن ذلك إنما هو من خداع « محمد » واستهوائهم لاتّباع دعوته، لحاجة فى نفسه ؟ أذلك هو النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون ؟
قوله تعالى :«كَلَّا سَيَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ » هو رد على هذا الذي يتساءلون عنه.. إنه أمر لا يدعو إلى تساؤل من عاقل، ولا يثير خلافا بين عقلاء.. إذ كان أظهر من أن يسأل عنه، وأوضح من أن يختلف فيه، وأنهم إذا جهلوه لجهلهم، أو تجاهلوه بعنادهم ـ فإنه سيأتى اليوم الذي يعلمونه فيه يقينا، ويرونه عيانا..
وفى تكرار الخبر، توكيد له، وتقرير لتلك الحقيقة السافرة، التي تقوم بين يديها ومن خلفها، الأدلة القاطعة، والبراهين الناطقة!

(١) - التفسير الحديث لدروزة - (٥ / ٤٠٥)


الصفحة التالية
Icon