وثنية أهل زمانه إلى التوحيد وإخلاص العبادة للَّه كما قال : ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النحل ١٦/ ١٢٣].
وذلك الدين : وهو إخلاص العبادة، وترك كل ما يعبد من دونه، وأداء الصلوات للَّه في أوقاتها، وبذل الزكاة للمحتاجين، هو دين الملة المستقيمة.
وقوله : وَما أُمِرُوا أي وما أمروا في التوراة والإنجيل إلا بالدين الحنيفي، أي أن المشروع في حقهم مشروع في حقنا. والأولى أن يكون المراد كما ذكر الرازي : وما أمر أهل الكتاب في القرآن أو على لسان محمد - ﷺ - إلا بهذه الأشياء، لأن الآية على هذا التقدير تفيد شرعا جديدا، وحمل كلام اللَّه على ما يكون أكثر فائدة أولى، ولقوله تعالى : حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ أي محمد - ﷺ -، ولأن اللَّه تعالى ختم الآية بقوله : وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ وهو شرع محمد - ﷺ -.
وهذه الآية دالة على أن التفرق والكفر فعلهم بدليل قوله : إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ. والمقصود من هذه الآية تسلية الرسول - ﷺ -، أي لا يحزنك أو لا يغمّنك تفرقهم، فليس ذلك لقصور في الحجة، بل لعنادهم، وهكذا كان سلفهم تفرقوا في السبت وعبادة العجل بعد قيام البينة عليهم، فهي عادة قديمة لهم.
وقوله : لِيَعْبُدُوا اللام في موضع (أن) أي إلا أن يعبدوا، والعرب تجعل اللام في موضع (أن) في الأمر والإرادة كثيرا، مثل قوله تعالى : يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء ٤/ ٢٦] وقوله : يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا [الصف ٦١/ ٨] وقال في الأمر : وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ [الأنعام ٦/ ٧١].
وبما أن الإخلاص : عبارة عن النية الخالصة، والنية معتبرة، فقد دلت الآية على أن كل مأمور به، فلا بد وأن يكون منويا. قالت الشافعية : بما أن الوضوء مأمور به في قوله تعالى : إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة ٥/ ٦] ودلت هذه الآية على أن كل مأمور يجب أن يكون منويا، فيلزم من مجموع الآيتين وجوب كون الوضوء منويا. وعلى هذا لا بد في المأمورات من النية : بأن يقصد الشخص بعمله وجه اللَّه. أما المنهيات فإن تركها بدون نية لم يؤجر في تركها، وإن تركها ابتغاء وجه اللَّه، كان مأجورا على تركها، وأما المباحات كالأكل والنوم، فإن فعلها بغير نية لم يؤجر، وإن فعلها بقصد وجه اللَّه والتقوي بها على الطاعة، كان له فيها أجر.
واللام في قوله تعالى : وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ تدل على مذهب أهل السنة حيث قالوا : العبادة ما وجبت لكونها مفضية إلى ثواب الجنة أو إلى البعد عن عقاب النار، بل لأجل أنك عبد، وهو رب، فلو لم يكن هناك ثواب ولا عقاب البتة، ثم أمرك بالعبادة، وجبت لمحض العبودية. وفيها أيضا إشارة إلى أنه من عبد اللَّه للثواب والعقاب، فالمعبود في الحقيقة هو الثواب والعقاب، والحق واسطة.


الصفحة التالية
Icon