وليس هذا الذي رآه الناس من أحداث الأرض يومئذ هو من تلقاء نفسها، وإنما ذلك بما أوحى به إليها ربّها، وما أمرها اللّه به، فامتثلت له، وأمضته كما أمر اللّه..
وفى قوله تعالى :« أوحى لها » ـ إشارة إلى أنها بمجرد الإشارة إليها من اللّه، خضعت لمشيئة اللّه.. فلم تكن فى خضوعها لربها محتاجة لأن يردّد عليها القول، أو يؤكد لها الأمر.. بل هو مجرد اللمح والإشارة.. وهذا هو شأن الخاضع المطيع، الذي لا إرادة له مع من يأمره.. إنه لا يحتاج إلى أمر صريح مؤكد، بل تغنى الإشارة عن العبارة..
فالوحى هنا، هو التلميح، دون التصريح، والإشارة دون العبارة.. وهذا من معنى قوله تعالى :« وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ » أي حق ووجب عليها الامتثال والطاعة.
قوله تعالى :« يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ ».
أي فى هذا اليوم، يوم البعث، يصدر الناس، أي يجىء الناس، صادرين من قبورهم « أشتاتا » أي أفرادا، متفرقين، كأنهم جراد منتشر، إلى حيث يردون على المحشر فى موقف الحساب.. فللناس فى هذا اليوم صدور، وورود..
صدور من القبور، وورود إلى المحشر.
وقوله تعالى :« لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ » هو تعليل لهذا الصدور، أي وذلك ليروا أعمالهم التي عملوها فى الدنيا. « يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ ». وقوله تعالى :« فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ». أي فمن يعمل فى هذه الدنيا مثقال ذرة من خير، يره خيرا فى الآخرة، ومن يعمل فى دنياه مثقال ذرة من شر، يره شرا يوم القيامة.. فليس المراد برؤية الأعمال تجرد الرؤية، وإنما المراد هو ماوراء هذه الأعمال من جزاء.. فالعمل الطيب إذا رآه صاحبه سرّ به، ورأى فى وجهه البشير الذي يحمل إليه رحمة اللّه ورضوانه فى هذا اليوم العظيم.. والعمل السيء إذا رآه صاحبه حاضرا بين يديه فى مقام الحساب، ساءه ذلك، وملأ نفسه حسرة وغما، إذ كان هو الشاهد الذي يشهد بتأثيمه وتجريمه.
ومثقال الذرة : وزنها. والذرة : هباءة من غبار، لا ترى إلا فى ضوء الشمس المتسلل من كوّة فى مكان مظلم.. وعن ابن عباس : الذرّ ما يلتصق بيدك إذا مست التراب. (١)
إنه يوم القيامة حيث ترتجف الأرض الثابتة ارتجافاً، وتزلزل زلزالا، وتنفض ما في جوفها نفضاً، وتخرج ما يثقلها من أجساد ومعادن وغيرها مما حملته طويلاً. وكأنها تتخفف من هذه الأثقال، التي حملتها طويلاً!

(١) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (١٥ / ١٦٤٩)


الصفحة التالية
Icon