امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } إنه مشهد لا تعبر عن صفته لغة البشر. هائل مروّع. مفزع. مرعب. مذهل..
كل أولئك وسائر ما في المعجم من أمثالها لا تبلغ من وصف هذا المشهد شيئاً مما يبلغه إرسال الخيال قليلاً يتملاه بقدر ما يملك وفي حدود ما يطيق!
﴿ يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ﴾.. ﴿ ليروا أعمالهم ﴾.. وهذه أشد وأدهى.. إنهم ذاهبون إلى حيث تعرض عليهم أعمالهم، ليواجهوها، ويواجهوا جزاءها. ومواجهة الإنسان لعمله قد تكون أحياناً أقسى من كل جزاء. وإن من عمله ما يهرب من مواجهته بينه وبين نفسه، ويشيح بوجهه عنه لبشاعته حين يتمثل له في نوبة من نوبات الندم ولذع الضمير. فكيف به وهو يواجه بعمله على رؤوس الأشهاد، في حضرة الجليل العظيم الجبار المتكبر؟!
إنها عقوبة هائلة رهيبة.. مجرد أن يُروا أعمالهم، وأن يواجهوا بما كان منهم!
ووراء رؤيتها الحساب الدقيق الذي لا يدع ذرة من خير أو من شر لا يزنها ولا يجازي عليها.
﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ﴾.. ذرة.. كان المفسرون القدامى يقولون : إنها البعوضة. وكانوا يقولون : إنها الهباءة التي ترى في ضوء الشمس.. فقد كان ذلك أصغر ما يتصورون من لفظ الذرة...
فنحن الآن نعلم أن الذرة شيء محدد يحمل هذا الاسم، وأنه أصغر بكثير من تلك الهباءة التي ترى في ضوء الشمس، فالهباءة ترى بالعين المجردة. أما الذرة فلا ترى أبداً حتى بأعظم المجاهر في المعامل. إنما هي « رؤيا » في ضمير العلماء! لم يسبق لواحد منهم أن رآها بعينه ولا بمجهره. وكل ما رآه هو آثارها!
فهذه أو ما يشبهها من ثقل، من خير أو شر، تحضر ويراها صاحبها ويجد جزاءها!..
عندئذ لا يحقر « الإنسان » شيئاً من عمله. خيراً كان أو شراً. ولا يقول : هذه صغيرة لا حساب لها ولا وزن. إنما يرتعش وجدانه أمام كل عمل من أعماله ارتعاشه ذلك الميزان الدقيق الذي ترجح به الذرة أو تشيل!
إن هذا الميزان لم يوجد له نظير أو شبيه بعد في الأرض.. إلا في القلب المؤمن..
القلب الذي يرتعش لمثقال ذرة من خير أو شر.. وفي الأرض قلوب لا تتحرك للجبل من الذنوب والمعاصي والجرائر..
ولا تتأثر وهي تسحق رواسي من الخير دونها رواسي الجبال..
إنها قلوب عتلة في الأرض، مسحوقة تحت أثقالها تلك في يوم الحساب!! (١)

(١) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (٦ / ٣٩٥٤)


الصفحة التالية
Icon