﴿ وإنه لحب الخير لشديد ﴾ فهو شديد الحب لنفسه، ومن ثم يحب الخير. ولكن كما يتمثله مالا وسلطة ومتاعاً بأعراض الحياة الدنيا..
هذه فطرته. وهذا طبعه. ما لم يخالط الإيمان قلبه. فيغير من تصوراته وقيمه وموازينه واهتماماته. ويحيل كنوده وجحوده اعترافاً بفضل الله وشكراناً. كما يبدل أثرته وشحه إيثاراً ورحمة. ويريه القيم الحقيقية التي تستحق الحرص والتنافس والكد والكدح. وهي قيم أعلى من المال والسلطة والمتاع الحيواني بأعراض الحياة الدنيا..
إن الإنسان بغير إيمان حقير صغير. حقير المطامع، صغير الاهتمامات. ومهما كبرت أطماعه. واشتد طموحه، وتعالت أهدافه، فإنه يظل مرتكساً في حمأة الأرض، مقيداً بحدود العمر، سجيناً في سجن الذات.. لا يطلقه ولا يرفعه إلا الاتصال بعالم أكبر من الأرض، وأبعد من الحياة الدنيا، وأعظم من الذات.. عالم يصدر عن الله الأزلي، ويعود إلى الله الأبدي، وتتصل فيه الدنيا بالآخرة إلى غير انتهاء..
ومن ثم تجيء اللفتة الأخيرة في السورة لعلاج الكنود والجحود والأثرة والشح، لتحطيم قيد النفس وإطلاقها منه. مع عرض مشهد البعث والحشر في صورة تنسي حب الخير، وتوقظ من غفلة البطر :﴿ أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور؟ ﴾..
وهو مشهد عنيف مثير. بعثرة لما في القبور. بعثرة بهذا اللفظ العنيف المثير. وتحصيل لأسرار الصدور التي ضنت بها وخبأتها بعيداً عن العيون. تحصيل بهذا اللفظ العنيف القاسي.. فالجو كله عنف وشدة وتعفير!
أفلا يعلم إذا كان هذا؟ ولا يذكر ماذا يعلم؟ لأن علمه بهذا وحده يكفي لهز المشاعر. ثم ليدع النفس تبحث عن الجواب، وترود كل مراد، وتتصور كل ما يمكن أن يصاحب هذه الحركات العنيفة من آثار وعواقب!
ويختم هذه الحركات الثائرة باستقرار ينتهي إليه كل شيء، وكل أمر، وكل مصير :﴿ إن ربهم بهم يومئذ لخبير ﴾.. فالمرجع إلى ربهم. وإنه لخبير بهم ﴿ يومئذ ﴾ وبأحوالهم وأسرارهم.. والله خبير بهم في كل وقت وفي كل حال. ولكن لهذه الخبرة ﴿ يومئذ ﴾ آثار هي التي تثير انتباههم لها في هذا المقام.. إنها خبرة وراءها عاقبة. خبرة وراءها حساب وجزاء. وهذا المعنى الضمني هو الذي يلوح به في هذا المقام!
إن السورة مشوار واحد لاهث صاخب ثائر.. حتى ينتهي إلى هذا القرار.. معنى ولفظاً وإيقاعاً، على طريقة القرآن! (١)

(١) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (٦ / ٣٩٥٨)


الصفحة التالية
Icon