ثم يقرع قلوبهم بهول ما ينتظرهم هناك بعد زيارة المقابر في إيقاع رزين :﴿ كلا سوف تعلمون ﴾.. ويكرر هذا الإيقاع بألفاظه وجرسه الرهيب الرصين :﴿ ثم كلا سوف تعلمون ﴾.
ثم يزيد التوكيد عمقاً ورهبة. وتلويحاً بما وراءه من أمر ثقيل. لا يتبينون حقيقته الهائلة في غمرة الخمار والاستكثار :﴿ كلا لو تعلمون علم اليقين ﴾.. ثم يكشف عن هذه الحقيقة المطوية الرهيبة :﴿ لتروُنّ الجحيم ﴾.. ثم يؤكد هذه الحقيقة ويعمق وقعها الرهيب في القلوب :﴿ ثم لتروّنها عين اليقين ﴾.. ثم يلقي بالإيقاع الأخير، الذي يدع المخمور يفيق، والغافل يتنبه، والسادر يتلفت، والناعم يرتعش ويرتجف مما في يديه من نعيم:﴿ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ﴾!
لتسألن عنه من أين نلتموه؟ وفيم أنفقتموه؟ أمن طاعة وفي طاعة؟ أم من معصية وفي معصية؟ أمن حلال وفي حلال؟ أم من حرام وفي حرام؟. هل شكرتم؟ هل أديتم؟ هل شاركتم؟ هل استأثرتم؟
﴿ لتسألن ﴾ عما تتكاثرون به وتتفاخرون.. فهو عبء تستخفونه في غمرتكم ولهوكم ولكن وراءه ما وراءه من هم ثقيل!
إنها سورة تعبر بذاتها عن ذاتها. وتلقي في الحس ما تلقي بمعناها وإيقاعها. وتدع القلب مثقلاً مشغولاً بهم الآخرة عن سفساف الحياة الدنيا وصغائر اهتماماتها التي يهش لها الفارغون!
إنها تصور الحياة الدنيا كالومضة الخاطفة في الشريط الطويل.. ﴿ ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ﴾.. وتنتهي ومضة الحياة وتنطوي صفحتها الصغيرة.. ثم يمتد الزمن بعد ذلك وتمتد الأثقال؛ ويقوم الأداء التعبيري ذاته بهذا الإيحاء. فتتسق الحقيقة مع النسق التعبيري الفريد..
وما يقرأ الإنسان هذه السورة الجليلة الرهيبة العميقة، بإيقاعاتها الصاعدة الذاهبة في الفضاء إلى بعيد في مطلعها، الرصينة الذاهبة إلى القرار العميق في نهايتها.. حتى يشعر بثقل ما على عاتقه من أعقاب هذه الحياة الوامضة التي يحياها على الأرض، ثم يحمل ما يحمل منها ويمضي به مثقلاً في الطريق!
ثم ينشئ يحاسب نفسه على الصغير والزهيد!!! (١)
ما ترشد إليه الآياتُ
١ - يحذر اللَّه تعالى من ترك العمل الصالح والاستعداد للآخرة، ويوبخ الذين تشغلهم المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة اللَّه، حتى يموتوا ويدفنوا في المقابر.
والتوبيخ عام يشمل التفاخر بكل شيء من الأموال والأولاد، والقبائل والعشائر، والسلطة والجاه، والرجال والأعوان، فهو يتضمن التفاخر بالنفس وهي العلوم والأخلاق الفاضلة،