كثيرون يصبرون على الفقر والحرمان فلا تتهاوى نفوسهم ولا تذل. ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الثراء والوجدان. وما يغريان به من متاع، وما يثير انه من شهوات وأطماع!
كثيرون يصبرون على التعذيب والإيذاء فلا يخيفهم، ويصبرون على التهديد والوعيد فلا يرهبهم. ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الإغراء بالرغائب والمناصب والمتاع والثراء! كثيرون يصبرون على الكفاح والجراح ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الدعة والمراح. ثم لا يصابون بالحرص الذي يذل أعناق الرجال. وبالاسترخاء الذي يقعد الهمم ويذلل الأرواح!
إن الابتلاء بالشدة قد يثير الكبرياء، ويستحث المقاومة ويجند الأعصاب، فتكون القوى كلها معبأة لاستقبال الشدة والصمود لها. أما الرخاء فيرخي الأعصاب وينيمها ويفقدها القدرة على اليقظة والمقاومة!
لذلك يجتاز الكثيرون مرحلة الشدة بنجاح، حتى إذا جاءهم الرخاء سقطوا في الابتلاء! وذلك شأن البشر.. إلا من عصم اللّه " (١)
وأكثر الناس لا يشكرون عند الرخاء ولا يصبرون عند البلاء، قال تعالى :﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ ﴾ (٥١) سورة فصلت
هذا الإنسان لا يسأم من دعاء الخير. فهو ملح فيه، مكرر له، يطلب الخير لنفسه ولا يمل طلبه. وإن مسه الشر. مجرد مس. فقد الأمل والرجاء وظن أن لا مخرج له ولا فرج، وتقطعت به الأسباب وضاق صدره وكبر همه ويئس من رحمة اللّه وقنط من رعايته. ذلك أن ثقته بربه قليلة، ورباطه به ضعيف! وهذا الإنسان إذا أذاقه اللّه منه رحمة بعد ذلك الضر، استخفته النعمة فنسي الشكر واستطاره الرخاء فغفل عن مصدره. وقال : هذا لي. نلته باستحقاقي وهو دائم علي! ونسي الآخرة واستبعد أن تكون «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً».. وانتفخ في عين نفسه فراح يتألى

(١) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (٤ / ٢٣٧٧)


الصفحة التالية
Icon