ومن ثم جاء القصص في القرآن بهذه الوفرة، وبهذا التنوع، وبهذا الإيحاء.. وقصص بني إسرائيل هو أكثر القصص ورودا في القرآن الكريم، لأسباب عدة، ذكرنا بعضها في الجزء الأول من الظلال عند استقبال أحداث بني إسرائيل وذكرنا بعضها في هذا الجزء في مناسبات شتى - وبخاصة في أوله - ونضيف إليها هنا ما نرجحه.. وهو أن اللّه - سبحانه - علم أن أجيالا من هذه الأمة المسلمة ستمر بأدوار كالتي مر فيها بنو إسرائيل، وتقف من دينها وعقيدتها مواقف شبيهة بمواقف بني إسرائيل فعرض عليها مزالق الطريق، مصورة في تاريخ بني إسرائيل، لتكون لها عظة وعبرة ولترى صورتها في هذه المرآة المرفوعة لها بيد اللّه - سبحانه - قبل الوقوع في تلك المزالق أو اللجاج فيها على مدار الطريق! إن هذا القرآن ينبغي أن يقرأ وأن يتلقى من أجيال الأمة المسلمة بوعي. وينبغي أن يتدبر على أنه توجيهات حية، تتنزل اليوم، لتعالج مسائل اليوم، ولتنير الطريق إلى المستقبل. لا على أنه مجرد كلام جميل يرتل أو على أنه سجل لحقيقة مضت ولن تعود! ولن ننتفع بهذا القرآن حتى نقرأه لنلتمس عنده توجيهات حياتنا الواقعة في يومنا وفي غدنا كما كانت الجماعة المسلمة الأولى تتلقاه لتلتمس عنده التوجيه الحاضر في شؤون حياتها الواقعة.. وحين نقرأ القرآن بهذا الوعي سنجد عنده ما نريد. وسنجد فيه عجائب لا تخطر على البال الساهي! سنجد كلماته وعباراته وتوجيهاته حية تنبض وتتحرك وتشير إلى معالم الطريق وتقول لنا : هذا فافعلوه وهذا لا تفعلوه. وتقول لنا : هذا عدولكم وهذا صديق. وتقول لنا : كذا فاتخذوا من الحيطة وكذا فاتخذوا من العدة. وتقول لنا حديثا طويلا مفصلا دقيقا في كل ما يعرض لنا من الشؤون.. وسنجد عندئذ في القرآن متاعا وحياة وسندرك معنى قوله تعالى :«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ»
فهي دعوة للحياة.. للحياة الدائمة المتجددة. لا لحياة تاريخية محدودة في صفحة عابرة من صفحات التاريخ. (١)