إن المعاني في الطريقة الأولى تخاطب الذهن والوعي، وتصل إليهما مجردة من ظلالها الجميلة. وفي الطريقة الثانية تخاطب الحس والوجدان، وتصل إلى النفس، من منافذ شتى : من الحواس بالتخييل. ومن الحس عن طريق الحواس، ومن الوجدان المنفعل بالأصداء والأضواء. ويكون الذهن منفذا واحدا من منافذها الكثيرة إلى النفس. لا منفذها المفرد الوحيد.
ولهذه الطريقة فضلها ولا شك في أداء الدعوة لكل عقيدة ؛ ولكننا إنما ننظر إليها هنا من الوجهة الفنية البحتة. وإن لها من هذه الوجهة لشأنا. فوظيفة الفن الأولى هي إثارة الانفعالات الوجدانية ؛ وإشاعة اللذة الفنية بهذه الإثارة، وإجاشة الحياة الكامنة بهذه الانفعالات، وتغذية الخيال بالصورة لتحقيق هذا جميعه.. وكل أولئك تكفله طريقة التصوير والتشخيص للفن الجميل : وإليك المثال فوق ما ضربنا من أمثال :
١- معنى النفور الشديد من دعوة الإيمان ينقل إليك في صورته التجريدية هكذا : إنهم لينفرون أشد النفرة من دعوة الإيمان. فيتملى الذهن وحده النفور في برود وسكون. ثم ينقل إليك في هذه الصورة العجيبة :" فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ. كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ. فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ". فتشترك مع الذهن حاسة النظر، وملكة الخيال، وانفعال السخرية، وشعور الجمال : السخرية من هؤلاء الذين يفرون كما تفر حمر الوحش من الأسد ؛ لا لشئ إلا لأنهم يُدعون إلى الإيمان ! والجمال الذي يرتسم في حركة الصورة حينما يتملاها الخيال في إطار من الطبيعة، تشرد فيه هذه الحمر يتبعها " قسورة " المرهوب !
فللتعبير هنا ظلاله حوله، تزيد في مساحته النفسية - إذا صح هذا التعبير !
٢- ومعنى عجز الآلهة التي كان العرب يعبدونها من دون الله، يمكن أن يؤدَّى في عدة تعبيرات ذهنية مجردة، كأن يقال : إن ما تعبدون من دون الله لأعجز عن خلق أحقر الأشياء. فيصل المعنى إلى الذهن مجردا باهتا.