١١. قصر النظر :
قال تعالى :﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (٧ ) ﴾ سورة الروم
وَهذا الذِي أَخْبَرَكَ بهِ رَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أَنَّهُ سَيَنْصُرُ الرُّومَ عَلَى الفُرسِ، هُوَ وَعْدٌ حَقٌّ مِنَ اللهِ تَعَالى، واللهُ لا يُخْلِفُ وَعْدَهُ أَبَداً، لأَنَّ سُنَّتَهُ قَدْ جَرَتْ بأَنْ يَنْصُرَ أَقْرَبَ الطَّائِفَتَيِنِ إِلى الحَقِّ، وَيَجْعَلَ لَهَا العَاقِبَةَ. ولكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ذلِكَ لِجْهْلِهِمْ، وَعَدَمِ تَفَكُّرِهِمْ في النَّوامِيسِ التِي وَضَعَهَا اللهُ في الكَوْنِ.
وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ إلاَّ بالأُمُورِ الدُّنْيا : كَتَدْبيرِ مَعَايِشِهِمْ، وَتَنْمِيَةِ مَتَاجِرِهِمْ، واسْتِثْمَارِ مَزَارِعِهِمْ.. وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْ أُمُورِ الدِّينِ، وما يَنْفَعُهُمْ في الآخِرَةِ، كَأَنَّ أَحَدَهُمْ مُغَفَّلٌ لا عَقْلَ لَهُ.
ذلك النصر وعد من الله، فلابد من تحققه في واقع الحياة:(لا يخلف الله وعده) فوعده صادر عن إرادته الطليقة، وعن حكمته العميقة. وهو قادر على تحقيقه، لا راد لمشيئته، ولا معقب لحكمه، ولا يكون في الكون إلا ما يشاء.
وتحقيق هذا الوعد طرف من الناموس الأكبر الذي لا يتغير (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ولو بدا في الظاهر أنهم علماء، وأنهم يعرفون الكثير. ذلك أن علمهم سطحي، يتعلق بظواهر الحياة، ولا يتعمق سننها الثابتة، وقوانينها الأصيلة ; ولا يدرك نواميسها الكبرى، وارتباطاتها الوثيقة: (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا).. ثم لا يتجاوزون هذا الظاهر ; ولا يرون ببصيرتهم ما وراءه.
وظاهر الحياة الدنيا محدود صغير، مهما بدا للناس واسعا شاملا، يستغرق جهودهم بعضه، ولا يستقصونه في حياتهم المحدودة. والحياة كلها طرف صغير من هذا الوجود الهائل، تحكمه نواميس وسنن مستكنة في كيان هذا الوجود وتركيبه.
والذي لا يتصل قلبه بضمير ذلك الوجود ; ولا يتصل حسه بالنواميس والسنن التي تصرفه، يظل ينظر وكأنه لا يرى ; ويبصر الشكل الظاهر والحركة الدائرة، ولكنه لا يدرك حكمته، ولا يعيش بها ومعها. وأكثر الناس كذلك، لأن الإيمان الحق هو وحده الذي يصل ظاهر الحياة بأسرار الوجود ; وهو الذي يمنح العلم روحه المدرك لأسرار الوجود. والمؤمنون هذا الإيمان قلة في مجموع الناس. ومن ثم تظل الأكثرية محجوبة عن المعرفة الحقيقية.
(وهم عن الآخرة هم غافلون).. فالآخرة حلقة في سلسلة النشأة، وصفحة من صفحات الوجود الكثيرة. والذين لا يدركون حكمة النشأة، ولا يدركون ناموس الوجود يغفلون عن الآخرة، ولا يقدرونها قدرها، ولا يحسبون حسابها، ولا يعرفون أنها نقطة في خط سير الوجود، لا تتخلف مطلقا ولا تحيد.
والغفلة عن الآخرة تجعل كل مقاييس الغافلين تختل ; وتؤرجح في أكفهم ميزان القيم ; فلا يملكون تصور الحياة وأحداثها وقيمها تصورا صحيحا ; ويظل علمهم بها ظاهرا سطحيا ناقصا، لأن حساب الآخرة في ضمير الإنسان يغير نظرته لكل ما يقع في هذه الأرض. فحياته على الأرض إن هي إلا مرحلة قصيرة من رحلته الطويلة في الكون. ونصيبه في هذه الأرض إن هو إلا قدر زهيد من نصيبه الضخم في الوجود. والأحداث والأحوال التي تتم في هذه الأرض إن هي إلا فصل صغير من الرواية الكبيره. ولا ينبغي أن يبني الإنسان حكمه على مرحلة قصيرة من الرحلة الطويلة، وقدر زهيد من النصيب الضخم، وفصل صغير من الرواية الكبيرة !
ومن ثم لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها، مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ولا ينتظر ما وراءها. لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة، ولا قيمة واحدة من قيمها الكثيرة ; ولا يتفقان في حكم واحد على حادث أو حالة أو شأن من الشؤون. فلكل منهما ميزان، ولكل منهما زاوية للنظر، ولكل منهما ضوء يرى عليه الأشياء والأحداث والقيم والأحوال.. هذا يرى ظاهرا من الحياة الدنيا ; وذلك يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن، ونواميس شاملة للظاهر والباطن، والغيب والشهادة، والدنيا والآخرة، والموت والحياة، والماضي والحاضر والمستقبل، وعالم الناس والعالم الأكبر الذي يشمل الأحياء وغير الأحياء.. وهذا هو الأفق البعيد الواسع الشامل الذي ينقل الإسلام البشرية إليه ; ويرفعها فيه إلى المكان الكريم اللائق بالإنسان. الخليفة في الأرض. المستخلف بحكم ما في كيانه من روح الله.
----------------
وقال تعالى عن قارون :
﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (٨٠)﴾ القصص
وَخَرَجَ قَارُونَ ذَاتَ يومٍ عَلَى قَومِهِ، وَهُوَ في زِينَةٍ عَظِيمَةٍ، وتَجَمُّلٍ بَاهِرٍ، فلما رَآه مَنْ يُريدُ الحَيَاةَ الدُّنيا، وَيمَيلُ إلى زُخُرفِها وزِينَتِها مِنْ قَومِهِ، تَمَنُّوا أَنْ لَوْ كَانُوا يُعطَوْنَ مِثْلِ ما أُعْطِيَ قَارُونُ مِنَ المَالِ، فهوَ ذُو حَظٍّ عظيمٍ وافرٍ في الدُّنيا.
فَلَمَّا سَمِعَ أهلُ العِلْمِ النَّافِع مَقَالَةَ مَنْ تَمَنَّوا أَنْ يكُونَ لَهُمْ مِثلُ مَا أُوتِيَ قَارُونُ من المَالِ، قَالُوا لَهُمْ : الوَيلُ والهَلاَكُ لَكُمْ عَلَى ما تَمَنِّيتُمْ، فَما يدِّخِرُهُ اللهُ مِنْ جَزاءٍ وثَوَابٍ لِعبَادِهِ الصَّالِحينَ في الدَّارِ الآخِرَةِ خيرٌ ممَّا تَرَوْنَهُ، ولا يَفُوزُ بالجَنَّةِ ونَعيمِها فِي الدَّارِ الآخِرَةِ إِلا الصَّابِرُونَ على مَحَبَّتِهِ، الرَاغِبونَ في الدَّار الآخِرَةِ.
وهكذا وقفت طائفة منهم أمام فتنة الحياة الدنيا وقفة المأخوذ المبهور المتهاوي المتهافت، ووقفت طائفة أخرى تستعلي على هذا كله بقيمة الإيمان، والرجاء فيما عند الله، والاعتزاز بثواب الله. والتقت قيمة المال وقيمة الإيمان في الميزان: قال الذين يريدون الحياة الدنيا: ياليت لنا مثل ما أوتي قارون. إنه لذو حظ عظيم..
وفي كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب، وتبهر الذين يريدون الحياة الدنيا، ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم مها ; فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته ؟ ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة ؟ من مال أو منصب أو جاه. ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى، كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى ! ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع، غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه، ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه، ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها.
فأما المتصلون بالله فلهم ميزان آخر يقيم الحياة، وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع. وهم أعلى نفسا، وأكبر قلبا من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعا. ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد. وهؤلاء هم (الذين أوتوا العلم). العلم الصحيح الذي يقومون به الحياة حق التقويم:(وقال الذين أوتوا العلم: ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا، ولا يلقاها إلا الصابرون).
ثواب الله خير من هذه الزينة، وما عند الله خير مما عند قارون. والشعور على هذا النحو درجة رفيعة لا يلقاها إلى الصابرون.. الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم. الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها. الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون. وعندما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة. درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض، والتطلع إلى ثواب الله في رضى وثقة واطمئنان.
ــــــــــــ