١٤. العمى هو عمى القلوب لا الأبصار
قال تعالى :﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (٤٦) سورة الحج
إِنًَّ القُرَى التي أَهْلَكَهَا اللهُ بِظُلْمِها وَكُفْرِها وَتَكْذِيبِها رُسُلَ اللهِ، هِيَ كَثِيرَةٌ ( فَكَأين ) فَأَصْبَحَتْ مُهَدَّمَةَ البُنْيَانِ، قَدْ سَقَطَتْ سُقُوفُها عَلى قِيعَانِها، وأَقْفَرَت الأَبْنِيةُ مِنْ سَاكِنيها، فَأَصْبَحَتْ مُوحِشَةً كَئِيبَةً، وَأَصْبَحَتِ الآبَارُ مُعَطَّلَةً مَهْجُورَةً لَمْ يَبْقَ أحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَأتِي إِلَيْهَا لِيَحْمِلَ مِنها الماءَ، وأَصْبَحَتِ القُصُورُ، المَبْنِيَّةُ لِتَكُونَ حُصُوناً وَمَعَاقِلَ يَحَتَمِي أَصْحَابُها بِها، مَهْجُورَةً خَالِيةً مِنْ سَاكِنيها.
أفلم يَسِر المكذبون من قريش في الأرض ليشاهدوا آثار المهلكين، فيتفكروا بعقولهم، فيعتبروا، ويسمعوا أخبارهم سماع تدبُّر فيتعظوا؟ فإن العمى ليس عمى البصر، وإنما العمى المُهْلِك هو عمى البصيرة عن إدراك الحق والاعتبار.
إن مصارع الغابرين حيالهم شاخصة موحية، تتحدث بالعبر، وتنطق بالعظات.. (أفلم يسيروا في الأرض) فيروها فتوحى لهم بالعبرة ؟ وتنطق لهم بلسانها البليغ ؟ وتحدثهم بما تنطوي عليه من عبر ؟ (فتكون لهم قلوب يعقلون بها) فتدرك ما وراء هذه الآثار الدوارس من سنة لا تتخلف ولا تتبدل. (أو آذان يسمعون بها) فتسمع أحاديث الأحياء عن تلك الدور المهدمة والآبار المعطلة والقصور الموحشة ؟.
أفلم تكن لهم قلوب ؟ فإنهم يرون ولا يدركون، ويسمعون ولا يعتبرون (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) !
ويمعن في تحديد مواضع القلوب: (التي في الصدور) زيادة في التوكيد، وزيادة في إثبات العمى لتلك القلوب على وجه التحديد !
ولو كانت هذه القلوب مبصرة لجاشت بالذكرى، وجاشت بالعبرة، وجنحت إلى الإيمان خشية العاقبة الماثلة في مصارع الغابرين، وهي حولهم كثير.
ولكنهم بدلا من التأمل في تلك المصارع، والجنوح إلى الإيمان، والتقوى من العذاب.. راحوا يستعجلون بالعذاب الذي أخره الله عنهم إلى أجل معلوم: (ويستعجلونك بالعذاب. ولن يخلف الله وعده. وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون)..
وذلك دأب الظالمين في كل حين. يرون مصارع الظالمين، ويقرأون أخبارهم ويعلمون مصائرهم. ثم إذا هم يسلكون طريقهم غير ناظرين إلى نهاية الطريق ! فإذا ذكروا بما نال أسلافهم استبعدوا أن يصيبهم ما أصابهم.. ثم يطغى بهم الغرور والاستهتار إذا أملى لهم الله على سبيل الاختبار. فإذا هم يسخرون ممن يخوفهم ذلك المصير. وإذا هم - من السخرية - يستعجلون ما يوعدون ! (ولن يخلف الله وعده) فهو آت في موعده الذي أراده الله وقدره وفق حكمته. واستعجال الناس به لا يعجله كي لا تبطل الحكمة المقصودة من تأجيله. وتقدير الزمن في حساب الله غيره في حساب البشر: (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون)..
ولقد أملى الله للكثير من تلك القرى الهالكة ; فلم يكن هذا الإملاء منجيا لها من المصير المحتوم والسنة المطردة في هلاك الظالمين: وكأي من قرية أمليت لها وهي ظالمة، ثم أخذتها، وإلي المصير.. فما بال هؤلاء المشركين يستعجلون بالعذاب، ويهزأون بالوعيد، بسبب إملاء الله لهم حينا من الزمان إلى أجل معلوم ؟.
ــــــــــــ


الصفحة التالية
Icon