١٦. لا يؤمنون بالآخرة :
قال تعالى :﴿ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٦٤) قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ (٦٦) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) ﴾ سورة النمل
وَاسْأَلْهُمْ هَلِ الذينَ تُشْرِكُونَهُمْ بالعِبَادَةِ مَعَ اللهِ خيرٌ أَمِ اللهُ الذي يَبْدَأُ الخَلْقَ، بِقُدْرَتِهِ وَسُلطَانِهِ، وَيَبتَدِعُهُ عَلى غيرِ مِثَالٍ سَبَقَ، ثُمَّ يُفْنِيهِ إِذا شَاءَ مَرَّةً أُخْرَى، وَهُوَ الذِي يَرزُقُكُمْ بِإِنزالِ المَطرِ مِنَ السَّماءِ فَيُخرجُ لكُم منَ الأَرضِ زُرُوعاً وَثِماراً ونَبَاتَاتٍ، وثِمَاراً ونَبَاتَاتٍ، تَنْتَفِعُ بِها الأَنْعَامُ والمَخلُوقَاتُ والبَشَرُ، فَهلْ إٍِلهٌ آخرُ مَعَ اللهِ فَعَلَ هذا؟ أَمْ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ؟ فإِذا ادَّعيُتُمْ أَنَّ آلِهَةً أُخْرى فَهَاُوا بُرْهَانَكُم عَلَى صِحَّةِ مَا تَقُولُونَ مِنْ وُجُودِ هذِهِ الآلِهَةِ الأُخْرَى التِي تَستَطيعُ أَنْ تَخلُقَ وَتَرْزُقَ؟
يَأْمُرُ الله تَعالى رَسُولَه ﷺ بأَنْ يُعْلِمَ الخَلائِقَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ أَهلِ السَّماواتِ والأرضِ الغَيبَ، وإِنَّما يعلَمُهُ اللهُ وَحْدَهُ، وَعِنْدَهُ وَحْدَهُ مَفَاتِيحُ الغَيبِ، لاَ يعلَمُها إلاَّ هُو، وَلا يَشْعُرُ الخَلاَئِقُ المَوْجُودُونَ في السَّماواتِ والأَرْضِ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ ومَتَى يَبْعَثُ اللهُ الأَمواتَ مِنْ قُبُورِهِمْ.
وَقَدْ قَصَّرَ عِلْمُهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَعَجَزُوا عَنْ ذلك وَغَابَ عَنْهُمْ، وَإِنَّ أكثرَ النّاسِ مِنَ الكَافِرينَ في شَكٍّ مِنْ حُدُوثِها وَوَقُوعِها، بَلْ هُم في عَمَايَةٍ وَجَهْلٍ كَبيرينِ مِنْ أمرِها وشَأْنِها.
وَقَالَ الكَافِرُونَ باللهِ، وَالمُكَذِّبُونَ لِرُسُلِهِ، المُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ والنُّشُورِ : هَلْ سَنَخْرُجُ مِنْ قُبُورِنا أحياءً كَهَيئتنا مِنْ بعدِ مَمَاتِنا، وَبَعْدَ أَنْ نَكُونَ قَد بَلِينا، وَأَصْبَحَتْ عِظَامُنا تُراباً؟
وَمَا زِلْنَا نَسْمَعُ بِهذا نَحْنُ وَآباؤُنَا، ولاَ نَرَى حَقِيقَةً لَهُ، وَلاَ وُقُوعاً، وَمَا هذا الوَعدُ بِإِعَادةِ نَشْرِ الأَجسَادِ منَ القُبُورِ بعدَ أَنْ تَصيرَ رُفَاتاً وتُراباً إِلا قَصَصٌ مِنْ قَصَصِ الأوَّلينَ، تَتَنَاقَلُهَا الأَلسُنُ، جيلاً بعدَ جيل، ولا سَنَدَ لها مِنَ الحَقيقةِ ولا ظِلَّ، لأنَّهُ لَوْ كَانَ البَعثُ حَقاً لحَصَلَ.
فَقُلْ يا مُحَمَّد لهؤلاءِ المُكَذِّبينَ لِلرُّسُلِ وَالمَعَادِ : سِيروا في الأرضِ فانظُروا كَيفَ كَانَتْ نِهَايَةُ الذين كَذَّبوا الرُّسُلَ مِنْ قَبلِكُمْ، وكَفَرُوا بربِّهِمْ، وأَفسَدُوا في الأَرضِ؟ لَقَد دَمَّرَ اللهُ عَلَيهِمْ، وَأْهْلَكَهُمْ، وَنَجَّى رُسُلَهُ والمُؤمنينَ، فاحذَرُوا أَنّ يُصيبُكُم مِثلُمَا أَصَابَهُم، ولسْتُمْ بأَكْرَمَ على اللهِ مِنْهُمْ.
والإيمان بالبعث والحشر، وبالحساب والجزاء، عنصر أصيل في العقيدة، لا يستقيم منهجها في الحياة إلا به. فلا بد من عالم مرتقب، يكمل فيه الجزاء، ويتناسق فيه العمل والأجر، ويتعلق به القلب، وتحسب حسابه النفس، ويقيم الإنسان نشاطه في هذه الأرض على أساس ما ينتظره هناك.
ولقد وقفت البشرية في أجيالها المختلفة ورسالاتها المتوالية موقفا عجيبا من قضية البعث والدار الآخرة، وعلى بساطتها وضرورتها. فكان أعجب ما تدهش له أن ينبئها رسول أن هناك بعثا بعد الموت وحياة بعد الدثور. ولم تكن معجزة بدء الحياة الواقعة التي لا تنكر تلهم البشرية أن الحياة الأخرى أهون وأيسر. ومن ثم كانت تعرض عن نذير الآخرة، وتستمرى ء الجحود والمعصية، وتستطرد في الكفر والتكذيب.
والآخرة غيب. ولا يعلم الغيب إلا الله. وهم كانوا يطلبون تحديد موعدها أو يكذبوا بالنذر، ويحسبوها أساطير، سبق تكرارها ولم تحقق أبدا !
فهنا يقرر أن الغيب من أمر الله، وأن علمهم عن الآخرة منته محدود: (قل: لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله، وما يشعرون أيان يبعثون. بل ادارك علمهم في الآخرة، بل هم في شك منها، بل هم منها عمون)..
ولقد وقف الإنسان منذ بدء الخليقة أمام ستر الغيب المحجوب، لا ينفذ إليه علمه، ولا يعرف مما وراء الستر المسدل، إلا بقدر ما يكشف له منه علام الغيوب. وكان الخير في هذا الذي أراده الله، فلو علم الله أن في كشف هذا الستر المسبل خيرا لكشفه للإنسان المتطلع الشديد التطلع إلى ما وراءه !
لقد منح الله هذا الإنسان من المواهب والاستعدادات والقوى والطاقات ما يحقق به الخلافة في الأرض، وما ينهض به بهذا التكليف الضخم.. ولا زيادة.. وانكشاف ستر الغيب له ليس مما يعينه في هذه المهمة. بل إن انطباق أهدابه دونه لمما يثير تطلعه إلى المعرفة، فينقب ويبحث. وفي الطريق يخرج المخبوء في باطن الأرض، وجوف البحر، وأقطار الفضاء ; ويهتدي إلى نواميس الكون والقوى الكامنة فيه، والأسرار المودعة في كيانه لخير البشر، ويحلل في مادة الأرض ويركب، ويعدل في تكوينها وأشكالها، ويبتدع في أنماط الحياة ونماذجها.. حتى يؤدي دوره كاملا في عمارة هذه الأرض، ويحقق وعد الله بخلافة هذا المخلوق الإنساني فيها.
وليس الإنسان وحده هو المحجوب عن غيب الله، ولكن كل من في السماوت والأرض من خلق الله. من ملائكة وجن وغيرهم ممن علمهم عند الله. فكلهم موكلون بأمور لا تستدعي انكشاف ستر الغيب لهم، فيبقي سره عند الله دون سواه.
(قل: لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله).. وهو نص قاطع لا تبقى بعده دعوى لمدع، ولا يبقى معه مجال للوهم والخرافة.
وبعد هذا التعميم في أمر الغيب يخصص في أمر الآخرة لأنها القضية التي عليها النزاع مع المشركين بعد قضية التوحيد: (وما يشعرون أيان يبعثون)..
ينفي عنهم العلم بموعد البعث في أغمض صوره وهو الشعور. فهم لا يعلمون بهذا الموعد يقينا، ولا يشعرون به حين يقترب شعورا. فذلك من الغيب الذي يقرر أن لا أحد يعلمه في السماوات ولا في الأرض.. ثم يضرب عن هذا ليتحدث في موقفهم هم من الآخرة، ومدى علمهم بحقيقتها: (بل ادارك علمهم في الآخرة)..
فانتهى إلى حدوده، وقصر عن الوصول إليها، ووقف دونها لا يبلغها.
(بل هم في شك منها).. لا يستيقنون بمجيئها، بله أن يعرفوا موعدها، وينتظروا وقوعها.
(بل هم منها عمون).. بل هم منها في عمى، لا يبصرون من أمرها شيئا، ولا يدركون من طبيعتها شيئا.. وهذه أشد بعدا عن الثانية وعن الأولى: وقال الذين كفروا: أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون ؟.. وهذه كانت العقدة التي يقف أمامها الذين كفروا دائما: أإذا فارقتنا الحياة، ورمت أجسادنا وتناثرت في القبور، وصارت ترابا.. أإذا وقع هذا كله - وهو يقع للموتى بعد فترة من دفنهم إلا في حالات نادرة شاذة - أإذا وقع هذا لنا ولآبائنا الذين ماتوا قبلنا يمكن أن نبعث أحياء كرة أخرى، وأن نخرج من الأرض التي اختلط رفاتنا بترابها فصار ترابا ؟
يقولون هذا وتقف هذه الصورة المادية بينهم وبين تصور الحياة الأخرى. وينسون أنهم خلقوا أول مرة ولم يكونوا من قبل شيئا. ولا يدري أحد أين كانت الخلايا والذرات التي تكونت منها هياكلهم الأولى. فلقد كانت مفرقة في أطواء الأرض وأعماق البحار وأجواز الفضاء. فمنها ما جاء من تربة الأرض، ومنها ما جاء من عناصر الهواء والماء، ومنها ما قدم من الشمس البعيدة، ومنها ما تنفسه إنسان أو نبات أو حيوان، ومنها ما انبعث من جسد رم وتبخرت بعض عناصره في الهواء !.. ثم تمثلت هذه الخلايا والذرات في طعام يأكلونه، وشراب يشربونه، وهواء يتنفسونه، وشعاع يستدفئون به.. ثم إذا هذا الشتيت الذي لا يعلم عدده إلا الله، ولا يحصي مصادره إلا الله، يتجمع في هيكل إنسان ; وهو ينمو من بويضة عالقة في رحم، حتى يصير جسدا مسجى في كفن.. فهؤلاء في خلقتهم أول مرة، فهل عجب أن يكونوا كذلك أو على نحو آخر في المرة الآخرة !
ولكنهم كانوا هكذا يقولون. وبعضهم ما يزال يقوله اليوم مع شيء من الاختلاف !
هكذا كانوا يقولون. ثم يتبعون هذه القولة الجاهلة المطموسة بالتهكم والاستنكار: (لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل. إن هذا إلا أساطير الأولين).
فهم كانوا يعرفون أن الرسل من قبل قد أنذروا آباءهم بالبعث والنشور. مما يدل على أن العرب لم تكن أذهانهم خالية من العقيدة، ولا غفلا من معانيها. إنما كانوا يرون أن الوعود لم تتحقق منذ بعيد ; فيبنون على هذا استهتارهم بالوعد الجديد قائلين: إنها أساطير الأولين يرويها محمد ﷺ غافلين أن للساعة موعدها الذي لا يتقدم لاستعجال البشر ولا يتأخر لرجائهم، إنما يجيء في الوقت المعلوم لله، المجهول للعباد في السماوات والأرض سواء. ولقد قال رسول الله ﷺ لجبريل - عليه السلام - وهو يسأله عن الساعة:" ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ".
وهنا يلمس قلوبهم بتوجيهها إلى مصارع الذين كذبوا قبلهم بالوعيد ويسميهم المجرمين: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين).
وفي هذا التوجيه توسيع لآفاق تفكيرهم، فالجيل من البشر ليس مقطوعا من شجرة البشرية ; وهو محكوم بالسنن المتحكمة فيها ; وما حدث للمجرمين من قبل يحدث للمجرمين من بعد ; فإن السنن لا تحيد ولا تحابي. والسير في الأرض يطلع النفوس على مثل وسير وأحوال فيها عبرة، وفيها تفتيح لنوافذ مضيئة. وفيها لمسات للقلوب قد توقظها وتحييها. والقرآن يوجه الناس إلى البحث عن السنن المطردة، وتدبر خطواتها وحلقاتها، ليعيشوا حياة متصلة الأوشاج متسعة الآفاق، غير متحجرة ولا مغلقة ولا ضيقة ولا منقطعة.
وبعد أن يوجههم هذا التوجيه يأمر رسوله ﷺ أن ينفض يديه من أمرهم، ويدعهم لمصيرهم، الذي وجههم إلى نظائره، وألا يضيق صدره بمكرهم، فإنهم لن يضروه شيئا، وألا يحزن عليهم فقد أدى واجبه تجاههم وأبلغهم وبصرهم.
(ولا تحزن عليهم. ولا تكن في ضيق مما يمكرون).. وهذا النص يصور حساسية قلبه ﷺ وحزنه على مصير قومه الذي يعلمه من مصائر المكذبين قبلهم، ويدل كذلك على شدة مكرهم به وبالدعوة وبالمسلمين حتى ليضيق صدره الرحب الكبير.
ثم يمضي في سرد مقولاتهم عن قضية البعث، واستهانتهم بالوعيد بالعذاب في الدنيا أو في الآخرة: (ويقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين)..
كانوا يقولون هذا كلما خوفوا بمصائر المجرمين قبلهم، ومصارعهم التي يمرون عليها مصبحين كقرى لوط، وآثا


الصفحة التالية
Icon